No Widgets found in the Sidebar
في الفن المعاصر، يمكن رؤية كيف يعبّر الكثير من الفنانين عن هذا الفقدان، حيث لا يستطيع الإنسان التكيف مع سرعة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية. يختفي الاتصال بالأرض، وتتبخر القيم التي كانت تمسك بالإنسان في مواجهة انعدام اليقين.في الفن المعاصر، يمكن رؤية كيف يعبّر الكثير من الفنانين عن هذا الفقدان، حيث لا يستطيع الإنسان التكيف مع سرعة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية. يختفي الاتصال بالأرض، وتتبخر القيم التي كانت تمسك بالإنسان في مواجهة انعدام اليقين.

بقلم زينة الشابي

الأنوميَا، تلك الحالة الغامضة التي يعيش فيها الفرد شعورًا عميقًا بالعزلة والاغتراب، حيث تندثر ألوان الواقع، وتفقد الحياة قيمتها. إنها تلك اللحظة التي يُصبح فيها الشخص كمن يمشي في متاهة، يبحث عن مخرج لا يُدركه. هي حالة من التفكك بين الفرد والمجتمع، بين الذات والعالم. لم يكن الفيلسوف الفرنسي إميل دوركهايم أول من وضع هذا المصطلح فحسب، بل كان سبّاقًا في تعميقه، إذ ربط الأنوميَا بانهيار القيم الاجتماعية التي تُحدّد مسار حياة الإنسان. ولكن هل هي حقًا مجرد خلل اجتماعي؟ أم أنها ترجمة لصراع أعمق بين ما يُفترض أن نكونه وما نحن عليه بالفعل؟ هذا هو السؤال الذي يظل عالقًا في الأفق.

الأنوميَا في علم النفس: الانفصال الداخلي والانعدام الوجودي
عندما يفقد الفرد مرشدًا معنويًا، ويغرق في بحر من الفراغ العاطفي، لا يكاد يرى ضوءًا يهديه إلى شاطئ الأمان، يكون قد وصل إلى نقطة الأنوميَا. هذا الضياع، الذي يولّد شعورًا بالحيرة العميقة، لا يتوقف عند حدود الحالة النفسية البسيطة، بل يفتح الباب أمام اضطرابات أشد تعقيدًا مثل الاكتئاب، القلق، والأزمات الوجودية. إنه الفراغ الذي ينتج عن تناقض بين طموحات الشخص ووسائل تحقيقها، مما يجعل كل محاولة للارتقاء أو للحركة عبثية.
أحد أبرز مظاهر الأنوميَا هو “القلق الوجودي”، حيث يعجز الشخص عن إيجاد تفسير لحياته، ويتراكم الشكّ في وجوده ذاته. ومع مرور الوقت، تنمو أزمة الهوية، وتصبح الحياة مثل سفينة دون دَفَّة، يُحركها الرياح ولكن دون وجهة واضحة. هذا الانفصال عن الذات وعن العالم، ينقض على أركان النفس ويترك الشخص في حالة من التفكك الداخلي. وفي عالم مليء بالخيارات والعوامل المتناقضة، يصبح العلاج النفسي – مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) – أداة حيوية لإعادة بناء الفرد معنويًا. هي محاولة لتوجيه هذا الشعور بالضياع نحو بحث حقيقي عن معنى شخصي، بعيدًا عن ضغط معايير المجتمع.

الأنوميَا في الأدب: تجسيد الضياع داخل شخصية أدبية
الأدب، بما هو مرآة تعكس مشاعر الإنسان وأعماقه، قدم لنا صورًا تتجسد فيها الأنوميَا بشكل عميق. في رواية “الغريب” لألبير كامو، يظهر “مؤمن” الشخصية الرئيسة في حالة انفصالٍ تام عن معايير المجتمع وقيمه. هذا البطل، الذي يُفترض فيه أن يتحلى بالترابط العاطفي والأخلاقي مع محيطه، ينقض على كل هذه الروابط حينما يُقتل في ظروفٍ درامية، دون أن يشعر بأي ذنب أو تأنيب. يبدو مؤمن ككائنٍ عائم في بحرٍ بلا شاطئ، لا يهتم سوى بما يراه أمامه من أشياء وأشخاص. هذه الحالة، تُظهر لنا أن الأنوميَا ليست مجرد تجنب للعلاقات الاجتماعية، بل هي شكل من الأشكال الحادة للاغتراب الداخلي.
أما في “المسخ” لفرانتز كافكا، تتحوّل حياة “جريجور سامسا” إلى كابوس وجودي، فيصبح فجأة كائنًا ماديًا غريبًا في عالمه البشري، وفي نفس الوقت، يصبح هو نفسه غريبًا عن ذاته. وهو بهذا يعكس انفصالًا مزدوجًا: الانفصال عن المجتمع الذي لا يتقبله، والانفصال عن ذاته التي يفقد تواصلها معها. إن هذه الشخصيات التي تنسحب إلى عالمها الخاص، ويفقدون القدرة على إيجاد معنى حقيقي لوجودهم، تسلط الضوء على الأنوميَا كحالة مرضية تعصف بالإنسان وتجعله يكتشف كل مظاهر الحياة بشكل غريب.
الأنوميَا في الفن: التعبير البصري عن الاغتراب

الفن هو لغة أخرى للألم الوجودي، وهو أداة تعبير يمكن من خلالها للفنان أن يجسد ما يعجز اللسان عن قوله. في لوحة “الصرخة” لإدوارد مونش، نجد التمثيل الأيقوني للأنوميَا. يتجسد فيها الإنسان في لحظة توترٍ كامل، في صرخةٍ تتردد في الفراغ المظلم. تلك الصرخة لا تحمل فقط الخوف من الموت، بل هي انعكاس لصراع داخلي لا ينتهي، لصراع مع الاغتراب والضياع في عالم يعصف بالتواصل البشري. إن “الصرخة” ليست مجرد هذيان إنساني، بل هي صرخة ضد مجتمع فقد تماسكه، وضد عالم فقد انسجامه.

في الفن المعاصر، يمكن رؤية كيف يعبّر الكثير من الفنانين عن هذا الفقدان، حيث لا يستطيع الإنسان التكيف مع سرعة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية. يختفي الاتصال بالأرض، وتتبخر القيم التي كانت تمسك بالإنسان في مواجهة انعدام اليقين. الفن يصبح وسيلة لتحرير الروح، كي تكتشف معناها الجديد في عالم مليء بالفوضى.

إعادة بناء المعنى في عصر الضياع
ومع كل هذا الضياع الذي قد تحمله الأنوميَا، يبقى أن نبحث عن فسحة ضوء في نهاية النفق. إذا كانت الأنوميَا هي حالة من الانفصال والضياع، فهي أيضًا دعوة للبحث عن معنى جديد في الحياة، للعودة إلى الذات بعد العواصف النفسية والاجتماعية. كما يمكن للفرد أن يعيد بناء عالمه الداخلي من خلال العمل الإبداعي، من خلال الفن، أو عبر بناء علاقات إنسانية قوية تتجاوز الأطر الاجتماعية التقليدية. قد تكون الأنوميَا فرصة للبحث عن معنى جديد، لا يُعطيه المجتمع بل يُبنى داخل النفس، ليصبح الفرد قادرًا على تجاوز الصراع الوجودي واكتشاف قيمته الخاصة في هذا العالم المتغير.
نعم، يمكن أن يكون الضياع نقطة انطلاق نحو إعادة خلق الذات، نحو بناء معانٍ جديدة تتجاوز هوس الفقد والانفصال، وتتحول إلى بداية جديدة.