الموافقة أو التراضي (Consentement) ذلك المفهوم الذي ينبع من عمق الحاجة إلى احترام إرادة الفرد وحقوقه، أصبح حجر الزاوية في فهم العلاقات الإنسانية في عالمنا المعاصر. لم يكن هذا المفهوم وليد اللحظة، بل تطور نتيجة للتحولات الاجتماعية والثقافية التي طالبت بحقوق الأفراد وحمايتهم من الاستغلال. في البداية، كان يُفهم بطريقة ضيقة، خاصة في سياقات الزواج والعلاقات الأسرية، حيث كان يُعتبر أن الموافقة ضمنية أو مفروضة. ولكن مع مرور الزمن، وتنامي الحركات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان، أصبح المفهوم أكثر وضوحًا وشمولًا، حيث صار شرطًا أساسيًا لا بدّ منه لأي علاقة تتطلب الاحترام المتبادل. في الغرب، أصبح القانون يعاقب على أي انتهاك لهذا الحق، بينما في بعض الثقافات الأخرى، مثل المجتمعات العربية والآسيوية، بدأت فكرة الموافقة الطوعية في التحول تدريجيًا لتواكب العصر وتعيد تعريف العلاقات الإنسانية من جديد على أسس من الوعي والحرية.. اليوم، تُعتبر الموافقة ضرورة أساسية، ليس فقط في العلاقات الجنسية، بل في كل تفاعل اجتماعي، إذ لا يمكن بناء عالم عادل دون أن يكون لكل فرد الحق في قول “نعم” أو “لا” بحرية تامة.
سلامة الجسم والموافقة:
مفاهيم تحتاج إلى تعزيز الفهم
تعتبر سلامة الجسم الحق الأساسي الذي يضمن لكل فرد حماية جسده من أي اعتداء أو انتهاك. وتعد هذه الحقوق جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان، فهي تشمل الخصوصية، والقدرة على اتخاذ القرارات الصحية والجنسية، والحماية من العنف والتمييز. إذ تُسهم سلامة الجسم في تعزيز الصحة النفسية والعاطفية، حيث يشعر الأفراد بالأمان والتمكين عند اتخاذ قراراتهم الشخصية بحرية ودون ضغوط خارجية.. وعلى الرغم من أن هذه المفاهيم قد تكون مفهومة بوضوح في بعض الثقافات، إلا أن هناك تحديات كبيرة في دول معينة على غرار تونس، حيث يعاني الشباب من صعوبة في فهم حقوقهم الجنسية والإنجابية، وبخاصة مفهوم الموافقة الجنسية Consentement.
لا بدّ أن نشير في البداية أنّ هذا المقال ارتكز على دراسة قامت بها مجموعة توحيدة بالشيخ حول “الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية في تونس: الأفكار، التصورات، والقيم التي يتبناها الشباب التونسي”….
التحديات التي تواجه الشباب التونسي في فهم الحقوق الجنسية والإنجابية
لطالما كانت القضايا المتعلقة بالحقوق الجنسية والإنجابية في تونس موضوعًا محاطًا بالعديد من التحديات الثقافية والاجتماعية التي تعيق الفهم السليم والمستقل لهذه الحقوق. واحدة من أبرز هذه التحديات تتمثل في غياب الفهم الواضح لمفهوم الموافقة الجنسية، وهو ما يتجلّى في العديد من المناقشات الجماعية بين الشباب.. في بعض الأحيان، يُعتقد أن الصمت أو “عدم الرفض الجسدي” يُعتبر بمثابة موافقة ضمنية، وهو ما يعكس عدم وضوح في التواصل داخل العلاقات. هذا الفهم المغلوط لا يقتصر على الشباب فقط، بل يتسرب إلى الأوساط الاجتماعية، مما يخلق ممارسات قد تُنتهك فيها سلامة الجسم، وتُحرم الأفراد من القدرة على اتخاذ قرارات صحية وآمنة بشأن أجسادهم.
إن هذا الوضع يعكس قصورا جماعيًا في فهم حدود الحقوق الشخصية، ليضع الأفراد في مواقف تتسم بالتباس الرغبات والموافقة، وهو ما يتعارض مع أسس حقوق الإنسان التي تقتضي وضوحًا تامًا في شروط الموافقة. وهنا يكمن الخطر في غياب الوعي الكافي الذي يمكن أن يؤدي إلى إساءة استخدام هذه الحقوق..
وجهنا مجموعة من الأسئلة لبعض الشباب التونسي، حول مدى معرفتهم بالتربية الجنسية والإنجابية وكيف يتجلى مفهوم الموافقة Consentement لديهم.هن.. وكانت الأسئلة كالتالي : هل سبق لك أن تلقيت تعليمًا رسميًا أو غير رسمي حول التربية الجنسية؟ وإذا نعم، كيف كان تأثيره؟ما رأيك في إدخال التربية الجنسية في المناهج الدراسية؟ وما المواضيع التي يجب أن تتناولها؟ وما نوع الحملات التوعوية أو البرامج التي تعتقد أنها ستكون فعالة في تعزيز فهم هذه الحقوق؟
نور الهدى، طالبة تبلغ من العمر 24 عامًا، تلقي الضوء على قضية حساسة ومهمة في حديثها حول التربية الجنسية، مشيرة إلى أن الشباب غالبًا ما يفتقرون إلى الجدية عند مناقشة هذا الموضوع. تعزو ذلك إلى الجهل الكبير بالمفاهيم المرتبطة به، حيث تقول: “ليست هنالك جدية من الشباب عند الحديث عن التربية الجنسية، وجهل بهذه المفاهيم.” تعكس هذه الملاحظة مشكلة أعمق تتجلى في غياب التثقيف الرسمي والمجتمعي حول التربية الجنسية، مما يؤدي إلى التعامل الساخر أو غير المبالي مع الموضوع. وتظهر الحاجة الماسة لإدراج التربية الجنسية في المناهج التعليمية بشكل يتماشى مع الفئات العمرية والثقافة المحلية، بهدف تمكين الشباب من فهم أعمق وأشمل، ليس فقط لضمان صحة العلاقات الاجتماعية والإنجابية، بل أيضًا لتعزيز الاحترام المتبادل والوعي بمسؤولياتهم وحقوقهم.