No Widgets found in the Sidebar
ما تكتبه المرأة السعودية اليوم هو أدب في أعلى درجات الصدق. أدب يواجه لا الواقع فقط، بل الوعي السائد، التابوهات، وحتى اللغة ذاتهاما تكتبه المرأة السعودية اليوم هو أدب في أعلى درجات الصدق. أدب يواجه لا الواقع فقط، بل الوعي السائد، التابوهات، وحتى اللغة ذاتها

بقلم سيماء المزوغي

حينما نقرأ الرواية السعودية التي خطتها النساء، فإننا لا نقرأ مجرد سرد لحكايات، بل نقرأ توثيقًا ناعمًا وموجعًا لتحولات مجتمع بأكمله. رواية المرأة السعودية لم تولد من رفاهية الخيال، بل من ضرورة البوح، من تراكمات الصمت، ومن صراع طويل بين الداخل والخارج، بين ما يجب أن يُقال وما لا يُقال. لقد كانت الكتابة في بداياتها الأولى فعل تحدٍّ، ومع مرور الزمن، تحولت إلى مساحة تمكين وخلق واعٍ للذات الأنثوية.

لعل من أولى البدايات البارزة لرواية المرأة في السعودية كانت أعمال رجاء عالم، الكاتبة التي كتبت مكة بلغة أسطورية وبنائية خاصة، حتى كأن المدينة تنطق من خلالها. في روايتها “طوق الطهارة”، التي فازت بجائزة البوكر العربية عام 2011 (بالمناصفة)، نلمح تمردًا رمزيًا على السائد، واحتفاءً بالحياة الداخلية للشخصيات النسائية، عبر سرد مشبع بالتصوف والرمزية. لم تكن رجاء عالم تكتب فقط عن النساء، بل كانت تكتب بالمرأة، أي أن صوتها السردي كان أنثويًّا بالمعنى العميق للكلمة: هشّ، داخلي، مقاوم للجفاف.

ثم تأتي ليلى الجهني، التي قدمت رواية “الرقص على العتبات” (1998)، كخطوة أخرى في طريق الكشف. اختارت الجهني أن تضع البطلة في مواجهة الذات، لا المجتمع فقط، وفي تلك المواجهة تتعرى الأسئلة، وتنبت الهشاشة كقوة.

أما أميمة الخميس، فقد برزت عبر روايتها “البحريات”، التي تسبر أغوار نساء الحجاز في القرن الماضي، في خليط لغوي غني، ولغة شاعرية تنسج من التفاصيل اليومية تاريخًا نسويًا ظلّ طويلًا على الهامش. الخميس، في هذه الرواية، لا تكتب عن المرأة فقط، بل عن الأثر الذي تُحدثه حين تُقصى، وحين تُروى.

الرواية السعودية بعيون الكاتبات: كتابة الذات خارج الأقفاص

لم تعد الرواية السعودية التي كتبتها النساء هامشًا على المتن الذكوري، ولا ردّ فعلٍ على الهيمنة، ولا حتى “وثيقة نسوية” تنتمي لأيديولوجيا بعينها. بل هي، في جوهرها، سردٌ إنسانيّ شجاع، كتبه الجسدُ كما كتبه العقل، وخطّه الوجدان كما وازنته الحرفة.

حين نقرأ روايات مثل بنات الرياض لرجاء الصانع، نساء المنكر لسمر المقرن، فسوق لعبده خال التي بطلتها امرأة، أو الآخرون لصبا الحرز، فإننا لا نجد فقط “صوت المرأة” بل نجد تشقق السياق الاجتماعي، وجسارة الطرح، ومحاولات خرق صمت طويل تواطأت عليه السلطة، والقبيلة، والحياء، وأحيانًا حتى اللغة.

صحيح أن كثيرًا من هذه الروايات أثارت جدلًا صاخبًا عند صدورها، لأنها حرّكت طينًا راكدًا، لكنها، في جوهرها، لا تُختزل في أنها “أدب كتبته امرأة”، بل في أنها أدب واجه القيود وتقدم بثقة في حقل ألغام مزدوج: تقاليد المجتمع من جهة، وسذاجة التوقعات النقدية من جهة أخرى.

الكاتبة السعودية لم تكتب لتقول: “أنا امرأة وأريد أن أُسمع”. بل كتبت لأنها كانت مهددة بالغياب. كتبت كي تنقذ صوتها من الفقد، وتعيد تشييد ذاتها من خلال السرد. هي لم تطلب من القارئ أن يتعاطف معها كامرأة، بل دعته ليقرأ إنسانًا يبحث عن هويته، ومكانه، وحقه في الحكي.

التجربة الأشد لفتًا للنظر، ربما، هي تلك التي قدمتها أميمة الخميس في الوارفة والبحريات، حيث تمتزج اللغة الفاخرة بالبحث الفلسفي، ويصير الجسد رمزًا لا للفتنة بل للمعرفة، وللخروج من سجن القوالب الجاهزة. أما ليلى الجهني، فقصّتها هاجس قلب هارب تكاد تكون تأملًا صوفيًا في الحب، والحيرة، والانكسار.

وهنا، يصبح السؤال عن “نسوية” هذه النصوص سؤالًا ساذجًا. لأن التجربة لا تقبل التلخيص في راية أو تيار. هناك نساء كتبن من داخل القهر، وأخريات كتبن من داخل الحنين، وثالثات كتبن من قلب الحب. وهنّ جميعًا – رغم تباعد تجاربهن – ينسجن نصوصًا لا تقف في وجه الرجال، بل في وجه الصمت.

ما فعلته الكاتبة السعودية هو أنها دخلت الرواية كما يدخل الناجي بعد حريق، لا ليثبت بطولته، بل ليجمع شتات ما تبقى من روحه. لم تكن حكاياتها وثائق تنديد، بل محاولات لكتابة ما لا يُقال. ومهما اختلفت عناوين الكتب، فإن سطرها الأول كان يقول دومًا: “أنا هنا. لا تنسوا أنني كنت.”

الرواية السعودية بعيون الكاتبات: كتابة الذات خارج الأقفاص

لم تعد الرواية السعودية التي كتبتها النساء هامشًا على متن ذكوري، ولا صدى متأخرًا لأسئلة الحداثة المؤجلة. إنها، ببساطة، كتابة ذات تحاول أن تفهم نفسها، عبر الحكي. كتابةٌ تبحث عن المعنى في التفاصيل، عن الله في الخوف، وعن الوطن في الجسد. وهنا، تكمن المفارقة: كلّما حاول النقد تصنيف هذه التجارب ضمن “الأدب النسوي”، بدت النصوص كأنها تتهرب بخفة من هذا القيد. لا لأنها ضد النسوية، بل لأن سؤالها أعمق من ذلك. سؤالها هو: من أنا؟ وكيف أكون في هذا المكان، بهذا الجسد، تحت هذا السقف؟

من بنات الرياض لرجاء الصانع، التي كسرت التابو الاجتماعي بتقنية الإيميل، إلى الآخرون لصبا الحرز التي أضاءت العتمة الداخلية بلغة تأملية صادمة، مرورًا بـ نساء المنكر لسمر المقرن التي كشفت هشاشة الحماية الاجتماعية، والوارفة لأميمة الخميس التي كتبت الذات عبر التاريخ والأسطورة—كل هذه الروايات لم تكن فقط عن المرأة، بل كانت عن الحقيقة.

السرد ككشف:

الرواية هنا ليست ترفًا أدبيًا. إنها أداة كشف. الكاتبة السعودية كتبت وكأنها تخلع قناعًا بعد آخر. في رواية الآخرون مثلًا، لا تهدف البطلة إلى تبرير ميولها أو الدفاع عن ذاتها، بل إلى القول: “أنا موجودة. وهذا العالم يجب أن يتسع لي.” اللغة هنا ليست خطابًا، بل همسًا داخليًا، مرآة مشروخة تلتقط صور الذات كما هي، بلا رتوش.

أما أميمة الخميس، فهي تستخدم لغة أنيقة، مضمخة بالإرث العربي الإسلامي، لكنها تسير بها إلى عمق الوجود، حيث تختلط الأنوثة بالحكمة، والرغبة بالفقد. في البحريات، لا تتحدث الشخصيات فقط، بل تتأمل، تتذكر، تُشكك، وتعيد بناء التاريخ من منظور الهامش لا المركز.

تحوّلات الواقع:

الرواية المكتوبة بأصوات نسائية في السعودية ليست معزولة عن الواقع السياسي والاجتماعي. بالعكس، كثيرًا ما كانت تُكتب على حافة التغير. مع كل انفتاح اجتماعي، ظهرت موجة جديدة من الروايات؛ ومع كل تضييق، ازدادت حدة اللغة وجرأتها. لكن اللافت أن الكاتبة السعودية لم تكن انعكاسًا مباشرًا لهذه التحولات، بل كانت جزءًا منها، فاعلة، ومُشكّلة لها أحيانًا.

خذ مثلًا تجربة ليلى الجهني، التي كتبت في داخل الداخل، حيث الشخصية تمزج بين الحزن الفلسفي والرغبة في التمرّد، أو تجربة نورة الغامدي التي جعلت من الهامش الجغرافي (الجنوب مثلًا) مركزًا سرديًا تنبعث منه الحكايات.

ماذا بعد التصنيف؟

أخطر ما يهدد هذه التجربة الثرية هو اختزالها في خانة “الأدب النسوي”. لا لشيء، إلا لأن هذا التصنيف غالبًا ما يُستخدم لتأطير الكاتبة ضمن منظور أيديولوجي، يُنتج قراءة سياسية أكثر من كونها فنية أو إنسانية. وهذا ظلم مزدوج: ظلم للنص، وظلم للمرأة الكاتبة، التي لا تطلب أن تُصنّف، بل أن تُقرأ بإنصاف.

ما تكتبه المرأة السعودية اليوم هو أدب في أعلى درجات الصدق. أدب يواجه لا الواقع فقط، بل الوعي السائد، التابوهات، وحتى اللغة ذاتها. إنها تكتب بما يشبه الصراخ الهادئ، العميق، المدوّي. وفي كل مرة، تخرج من الصمت وكأنها تقول للعالم: “أنا لا أطلب أن تنحاز إليّ. فقط اقرأني كما أكتب، لا كما تتوقع أن أكتب.”