No Widgets found in the Sidebar
لكن لتحقيق هذا الأثر الاقتصادي، لا بد من تجاوز النظرة الفلكلورية إلى المهرجان، واعتماده كجزء من السياسات الثقافية العامة

لطالما نظر البعض إلى المهرجانات على أنها مجرّد لحظات من الترفيه العابر، احتفالات موسمية لا تُنتج سوى الضجيج والبهجة المؤقتة. لكن في واقع الاقتصاد الثقافي، تكشف المهرجانات عن وجه مغاير تماماً: وجه استثماري وتنموي، يجعل منها رافعة اقتصادية حقيقية ووسيلة لإعادة توزيع الثروة وتحفيز التنمية المحلية.

في جوهرها، تُعتبر المهرجانات من أبرز أدوات الاقتصاد الإبداعي، حيث تتحوّل الثقافة من منتج رمزي إلى منتج اقتصادي قابل للتداول، وقادر على خلق القيمة. إن تنظيم مهرجان ناجح لا يقتصر على تأمين التمويل والدعاية، بل ينطوي على سلسلة معقدة من العمليات تشمل إدارة الموارد، التسويق الثقافي، والتخطيط الحضري، وصولاً إلى بناء سلاسل القيمة الثقافية.

تبدأ هذه السلاسل من الفنان والمبدع، لتصل إلى الجمهور، مروراً بشبكات من الموردين المحليين، ومهنيي التقنية، وصناعات الضيافة، والنقل، والإعلام. ويترجم هذا التداخل إلى ما يُعرف بـ الأثر الاقتصادي غير المباشر، حيث تستفيد قطاعات اقتصادية عدة من النشاط الثقافي، دون أن تكون جزءاً مباشراً منه.

كما تمثل المهرجانات محفزاً للطلب الداخلي والخارجي، ما يُعرف بـ تنشيط السياحة الثقافية. فتدفق الزوار، المحليين والأجانب، يرفع من نسب الإشغال في الفنادق، ويعزز الاستهلاك في المطاعم والمقاهي، ويُنعش الحرف التقليدية والأسواق الشعبية. بل إن بعض الدراسات الاقتصادية توصلت إلى أن كل دولار يُستثمر في مهرجان ثقافي، يدرّ أضعافه في شكل عوائد محلية مباشرة وغير مباشرة.

من منظور اقتصاد التنمية المحلية، تتحوّل المهرجانات إلى فضاءات لبناء الثقة، تقوية الشبكات الاجتماعية، وتحفيز التشغيل، خصوصاً للشباب. فهي توفّر فرص عمل مؤقتة ودائمة في مجالات التنظيم، الإدارة، الصوتيات، الأمن، التسويق، وغيرها. كما أنها تمنح الفنانين والفاعلين الثقافيين مساحات للعرض والترويج، ما يساهم في تطوير الصناعات الثقافية المحلية.

وتكمن أهمية المهرجانات كذلك في قدرتها على تفعيل الاقتصاد الرمزي للمدينة، أي جعل المدينة علامة تجارية ثقافية، وتعزيز جاذبيتها الاستثمارية. المدن التي تستضيف مهرجانات دولية تنجح في بناء رأسمال ثقافي يُترجم إلى رأسمال اقتصادي، ويعزز من تنافسيتها على الصعيدين الوطني والعالمي.

لكن لتحقيق هذا الأثر الاقتصادي، لا بد من تجاوز النظرة الفلكلورية إلى المهرجان، واعتماده كجزء من السياسات الثقافية العامة، وربطه بأهداف التنمية المستدامة، والتشغيل، والتماسك الاجتماعي. كما ينبغي تطوير مؤشرات واضحة لقياس الأثر الاقتصادي والاجتماعي، وربط التمويل العمومي بمدى تحقق هذه المؤشرات.

في النهاية، المهرجانات ليست كماليات في مشهد الثقافة، بل أصول اقتصادية واستثمارية. إنها اقتصادات صغيرة متنقلة، قادرة على تنشيط الفضاءات، توليد الدخل، وإعادة إنتاج المعنى. وفي زمن الأزمات المتكررة، يصبح الاستثمار في الثقافة – عبر المهرجانات – ليس فقط خياراً راقياً، بل ضرورة استراتيجية.