No Widgets found in the Sidebar
هذا "الظل" ما زال موجودًا، يتربص بنا في كل زاوية من حياتنا اليومية، يبحث عن ضوء ليظهر في صور مختلطة: صورة المواطن الساخر، صورة العامل المهمش، وصورة المثقف المحبط.هذا "الظل" ما زال موجودًا، يتربص بنا في كل زاوية من حياتنا اليومية، يبحث عن ضوء ليظهر في صور مختلطة: صورة المواطن الساخر، صورة العامل المهمش، وصورة المثقف المحبط.

بقلم سيماء المزوغي

ماذا يعني أن تكون “تونسيًا” في هذه اللحظة التاريخية؟ ماذا تعني الهوية في بلدٍ يحمل ذاكرة شعبٍ موزعة بين الأمواج المتلاطمة للبحر ورمال الصحراء الحارقة؟ بين عيون التاريخ الممتدة من الفينيقيين إلى العثمانيين، وبين ثقافات تحتفل بالاختلاف وتراه علامة مميزة، بينما تُصر على البقاء تحت وطأة القبضة الثقافية التي تركها الاستعمار الفرنسي؟

إذا كانت الهوية الفردية مرآة تعكس الذات، فإن الهوية الجماعية هي مرآة تعكس تشتتًا مستمرًا، ذلك الذي يحاول جمع خيوطه المفقودة بين الحين والآخر. يظن البعض أن الشعب التونسي، بتنوعه الثقافي الفريد، قد حصل على مزيج مميز من الأعراق والتاريخ، لكن الحقيقة أننا شعب ضائع بين التناقضات. نلتقي فيه الشرق بالغرب، والإسلام بالفرنسية، والعروبة بالأمازيغية، ولكننا عاجزون عن إيجاد صورة مكتملة لذاتنا.

في أعماق الذاكرة الجماعية: هوية مشوشة بين الأرض والبحر

عندما نغوص في تاريخ تونس، نجد أن كل حضارة تركت بصمتها في تكوينه. من الفينيقيين إلى الأتراك، مرورًا بالعرب الأندلسيين والفرنسيين، دخلت هذه التأثيرات في تفاعل معقد على المستويين الاجتماعي والنفسي. لكن هل يمكن للإنسان أن يعيش في منزل مليء بالحكايات القديمة، ويتنفس بين جدرانه الممزقة؟ هل الهوية تُصنع فقط عبر التاريخ، أم أن هناك صراعًا داخليًا في النفس الجماعية التي ما زالت تتساءل: “من نحن؟”

أتذكر في أحد الأيام، في مقهى شعبي في وسط العاصمة، حيث كان الحديث يدور عن الوضع السياسي الراهن، كيف توقفت فجأة عند حديث أحدهم عن جدته التي كانت تروي لهم قصصًا عن الأيام التي عاشتها أثناء الاحتلال الفرنسي. تلك القصص التي سمعناها جميعًا في صغرنا، كانت تحمل مزيجًا من الفخر والألم. لكن ما أدهشني أكثر كان كيف أن بعضنا، ونحن جالسون في هذا المقهى بعد عقود من الاستقلال، ما زلنا نشعر وكأننا نحمل تلك الذكريات على أكتافنا. مثلما يحمل الذاكرة الجماعية “ظلًّا” لا يكتمل أبدًا، هذا “الظل” يتكون من تاريخنا المنسي، من أحلامنا المفقودة، ومن التقاليد التي فقدت قدرتها على الاتصال بحاضرنا. في تونس، هذا “الظل” ما زال موجودًا، يتربص بنا في كل زاوية من حياتنا اليومية، يبحث عن ضوء ليظهر في صور مختلطة: صورة المواطن الساخر، صورة العامل المهمش، وصورة المثقف المحبط.

هل نحن شعب متصالح مع ذاته؟ أم أننا نعيش في انفصام داخلي مستمر؟

هذا هو السؤال الذي لا يتوقف التونسيون عن طرحه، سواء في المقاهي أو اجتماعات العائلة أو الفضاءات الافتراضية. في كل مرة نحتفل بإنجازاتنا أو نحتج على واقعنا، نلاحظ التناقضات التي تسكننا. كيف نكون شعبًا عاش في أرض كانت منبعًا للفكر التحرري، وفي الوقت نفسه نعيش حالة من العدمية، حيث نقبل بين الحين والآخر بالأمر الواقع؟ هل نحن في حالة انفصام؟ هل نحن نبتسم لحظات، ثم نبكي في الخفاء؟

في تونس، تتراوح أنماطنا الجماعية بين التفاؤل المفرط والشك المفرط. كأننا بين حلم دائم بكسر القيود من جهة، وخوف من الخيبة يدفعنا للانسحاب في العزلة الاجتماعية من جهة أخرى

تقول النظرية النفسية الجماعية، عبر يونغ، أن الجماعات التي تمر بمراحل تحول حادة، مثل الثورة أو الهزات الاجتماعية الكبرى، تنتج “أنماطًا جماعية” من السلوكيات. في تونس، تتراوح أنماطنا الجماعية بين التفاؤل المفرط والشك المفرط. كأننا بين حلم دائم بكسر القيود من جهة، وخوف من الخيبة يدفعنا للانسحاب في العزلة الاجتماعية من جهة أخرى. هذا التناقض يتجسد بوضوح في مشهدنا اليومي، في الخوف من الفشل الذي يعيقنا، وفي الأمل الذي يلهبنا أحيانًا، حتى ننسى أننا قد نضيع بينهما.

رموز السلطة بين السخرية والقبول

لننتقل إلى الحديث عن الرموز، تلك الهياكل التي تحمل في داخلها القدرة على إيقاظ الأمل والخوف معًا. هل تأثرت تونس بالثورة حقًا؟ أم أن ما نراه الآن هو مجرد إعادة إنتاج لنفس الرموز؟ عندما ننظر إلى صور الرموز التي لطالما كانت تحمل في طياتها الأمل أو الخوف، نتساءل: هل ما زالت هذه الرموز توجه الجماهير؟ أم أننا بحاجة إلى تكسيرها لإعادة خلق رموز جديدة تعبر عنا؟

الرموز في تونس تتأرجح بين معانيها القديمة والإعجاب المشروط بما تقدمه لنا السلطة. الصورة القديمة تتداعى مع مرور الزمن، بينما نجد أنفسنا نبحث عن شخصية جديدة، حلم جديد يحملنا نحو المستقبل، يتناغم مع تطلعاتنا المتجددة. لكن هل نحن قادرون حقًا على بناء هذه الرموز الجديدة، أم أن العودة إلى الماضي، مهما كان مؤلمًا، هي ما تراه الجماعة التونسية كأرضية أكثر أمانًا؟

منذ أحداث 2011، نجد أنفسنا نواجه محطات عديدة من الخيبة، ولكن ربما يكون أعظم الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا هو: هل وصلنا إلى قناعة أننا لا نستحق سوى “الخبز قبل الكرامة”؟ هل أصبح الثوار نكتة؟ ما يتردد في المقاهي وفي الشوارع يكشف عن تصدع الثقة في قدرتنا على التغيير. الحلم الذي بدأ بثورة كان أملًا عالميًا، يبدو اليوم وكأنه رماد يتطاير في الهواء.

لكن، هل يعكس هذا قبولًا بالحقيقة القاسية، أم أنه مجرد مرادف لعدم القدرة على المواصلة؟ هل نحن شعب من المكافحين الذين يملكون القدرة على النهوض مجددًا، أم أننا في مرحلة من “اللاعقلانية” التي لا تقودنا إلا إلى سخرية مريرة من أحلامنا التي تبددت؟

الخوف من التغيير: بين العجز والتمسك بالثوابت

إذا كانت الثورات قد أضاءت في أفقنا أملًا بحياة أفضل، فقد فاجأتنا بعد سنوات من الحلم بخيبة مريرة. فما بين شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، نجد أنفسنا أحيانًا نتخبط بين الوعود المكسورة والواقع الذي لا يزال يطاردنا، كأننا نسير في حلقة مفرغة من الأمل والخوف. السؤال الذي يتردد في أذهاننا: هل نحن خائفون من التغيير حقًا؟ أم أننا فقط نشعر بالعجز أمام حجم التحديات التي تواجهنا؟ ربما يكمن خوفنا في أننا، في أعماقنا، لا نعرف إلى أين نتجه، وأننا، رغم كل شيء، نتمسك بالثوابت التي قد تكون هي في ذاتها قيودًا تعيق تطورنا. هل سيظل التونسيون يتأرجحون بين هذا الخوف وهذه الرغبة في التغيير؟ أم أننا، في لحظة ما، سنجرؤ على التحرر من هذا السجن النفسي الذي يحد من إمكانياتنا؟

بينما نعيش في هذا الفضاء المتداخل من التحديات، تبقى الحرية حلمًا يؤرقنا. ومع كل خطوة نخطوها نحو مستقبل مجهول، نجد أنفسنا نسائل معاني الحرية بطرق مختلفة. هل الحرية هي مجرد إزالة القيود، أم أن هناك حرية أعمق تتعلق بتحقيق الذات الجماعية والمشتركة؟ في هذا السياق، يبقى السؤال: هل يمكن للشعب التونسي أن يتحرر من جراحه القديمة ومن مشاعره المتناقضة ليعيش حرًا بمعنى الكلمة؟ أم أننا سنظل نبحث عن هذه الحرية في الظلال، نُغنيها بحكايات الماضي وننتظر أن تتحقق في يومٍ ما؟