في كتابه “La Tunisianité au pluriversel“، يقدم محمد زين العابدين تصورًا مغايرًا للهوية التونسية، يُعيد عبره تشكيل العلاقة بين الخصوصية الثقافية والانفتاح العالمي. يستند الكاتب إلى فلسفة وجودية تعيد النظر في مفهوم الهوية باعتبارها ديناميكية ومتغيرة، لا مجرد صفة ثابتة تحددها الجغرافيا أو التراث.
الهوية التونسية في مواجهة العولمة
يرى زين العابدين أن العولمة، رغم تعقيداتها، ليست تهديدًا للهوية بقدر ما هي فرصة لإعادة صياغتها. يؤكد أن الهوية التونسية ليست كيانًا مغلقًا، بل هي عملية مستمرة من التفاعل مع المؤثرات الخارجية، مزيج من الشرق والغرب، التقليد والحداثة. تستمد تونس تفردها من موقعها الجغرافي والتاريخي كجسر بين العالمين، وهو ما يجعل هويتها قابلة للتطور والإثراء دون التخلي عن أصالتها.
العولمة، وفق رؤية الكاتب، لا تعني تذويب الثقافات في بوتقة واحدة، بل هي فضاء للتفاعل المثري الذي يعزز التنوع. ويشير إلى أن الهوية التونسية تعبر عن هذه الرؤية من خلال قدرتها على التكيف والاندماج مع المؤثرات الكونية، دون أن تفقد ارتباطها بجذورها الثقافية.
من الفلسفة إلى الهوية
يستلهم زين العابدين من الفلسفة الوجودية، خاصة أفكار هايدغر ونيتشه، ليُقدّم قراءة عميقة للهوية. يتعامل مع الهوية كفعل اختياري مستمر، على غرار مقولة نيتشه: “كن ما أنت!”، حيث يُصبح الأفراد مسؤولين عن خلق هويتهم بعيدًا عن القوالب الجاهزة.
في هذا السياق، تصبح الهوية التونسية وسيلة للتعبير عن الحرية الفردية والجماعية. يشدد الكاتب على أن هذه الهوية ليست مجرد ميراث تاريخي، بل هي مشروع مستقبلي يتطلب وعيًا نقديًا وقدرة على التفاعل مع العالم.
الهُوية، كما يطرحها زين العابدين، ليست صفة تُورث، بل هي اختيار يومي ونتاج تفاعل مستمر بين الذات والآخر.
التونسية بين الأصالة والانفتاح
يُبرز زين العابدين التوازن بين الحفاظ على التراث والانفتاح على العالم كمفتاح لفهم الهوية التونسية. يرفض الثنائيات التقليدية التي تقسم الثقافات إلى شرقية وغربية، ويدعو إلى رؤية “عولمية تونسية” تجمع بين الانتماء المحلي والانفتاح الكوني.
يشير إلى أن الهوية التونسية استطاعت على مر العصور أن تكون مرنة وديناميكية، متأثرة بالأحداث التاريخية الكبرى مثل الفتوحات الإسلامية والاستعمار الفرنسي، لكنها حافظت على جوهرها. ويعتبر الكاتب أن هذا التوازن بين الأصالة والتجدد هو ما يجعل الهوية التونسية نموذجًا قابلًا للتأمل والاقتداء.
يتساءل زين العابدين عن قدرة الهوية التونسية على الصمود أمام التحولات العالمية السريعة. في ظل التغيرات السياسية والثقافية والاقتصادية، يرى أن الهوية التونسية مطالبة بأن تكون مرنة بما يكفي لمواكبة العصر، وفي نفس الوقت ثابتة في قيمها الأساسية.
الكتاب يُمثل دعوة للتأمل في مستقبل الهوية الوطنية ضمن عالم متعدد الثقافات، حيث يُصبح الحفاظ على الهوية مسألة إبداع مستمر، لا انغلاق على الذات.
الهوية كعملية دائمة
“La Tunisianité au pluriversel” هو أكثر من مجرد كتاب عن الهوية، بل هو بيان فلسفي يعيد تعريف العلاقة بين المحلي والعالمي. من خلال هذا الكتاب، يقدم زين العابدين رؤية تُبرز الهوية التونسية ككيان مرن، متجدد، وقادر على أن يكون جزءًا من العالم دون أن يفقد خصوصيته.
الهُوية، كما يطرحها زين العابدين، ليست صفة تُورث، بل هي اختيار يومي ونتاج تفاعل مستمر بين الذات والآخر.
إلى جانب تناول العولمة كفرصة لتطوير الهوية، يُضيف محمد زين العابدين بُعدًا آخر يتمثل في القدرة التونسية على بناء جسور بين الثقافات المختلفة، وهو ما يُعتبر محورًا أساسيًا لفهم الهوية التونسية. هذا المفهوم يذهب أبعد من مجرد الحوار بين الشرق والغرب إلى التفكير في الهوية كمجال متكامل للحوار الثقافي العالمي. تونس، التي تملك تاريخًا يمتد إلى قرون من التفاعل مع حضارات المتوسط وشمال إفريقيا وأوروبا، قادرة على أن تكون نموذجًا عالميًا للتعايش الثقافي.
يتوقف الكاتب عند فكرة “التجديد الثقافي” الذي يرى فيه سمة مميزة للهوية التونسية. هذا التجديد لا ينحصر في عملية الإبداع الفني أو الأدبي، بل يتسع ليشمل البنية الفكرية والاجتماعية التي تُعيد من خلالها تونس تعريف نفسها في كل مرحلة من مراحل التاريخ. هنا، يُبرز زين العابدين الدور الحيوي للمرأة التونسية كمحرك للتغيير الثقافي والاجتماعي، معتبرًا أن المرأة تمثل الجسر الحي بين الأصالة والحداثة في المجتمع التونسي، فهي التي حافظت على الإرث الثقافي من جهة، وساهمت في صياغة هوية تونس المعاصرة من جهة أخرى.
ويناقش زين العابدين تأثير الثورة التونسية عام 2011، ليس فقط كحدث سياسي، بل كمنعطف فكري غيّر مفاهيم الهوية الوطنية. يشير إلى أن الثورة خلقت فضاءً عامًا جديدًا للنقاش الثقافي، حيث أصبحت الهوية الوطنية موضع إعادة تقييم من منظور الحرية والديمقراطية. هذا التحول سمح للتونسيين بإعادة بناء علاقتهم بتاريخهم وهويتهم بطريقة أكثر نقدية وإبداعية.
في سياق آخر، يرى الكاتب أن الهويات الثقافية في عالم اليوم يجب أن تتحلى بمرونة قادرة على الاستجابة للتحديات البيئية والاقتصادية والتكنولوجية التي تواجه البشرية. ويُبرز هنا الدور التونسي في التفاعل مع قضايا معاصرة مثل التغير المناخي والتنمية المستدامة، معتبراً أن الهوية التونسية يمكن أن تُقدم نموذجًا لما أسماه بـ”الإنسانية الكونية”، حيث تكون الخصوصية الثقافية محفزًا للمساهمة في حلول عالمية.
هذا الامتداد العالمي للهُوية لا يُلغي دورها المحلي، بل يُعيد تعريفها كإضافة نوعية للمشهد الثقافي الإنساني. وبهذا المعنى، تصبح الهوية التونسية ليست فقط انعكاسًا لواقعها المحلي، بل مساهمة في تشكيل رؤية عالمية قائمة على التعددية، الحوار، والتعايش.