في ظلّ مشهد اقتصادي يرزح تحت الضغوط، ومناخ ثقافي هشّ يكاد يُمحى من الذاكرة الجماعية، يصبح من الضروري – لا بل المستعجل – أن نعيد طرح السؤال الجوهري حول مكانة الثقافة في تونس: هل هي عبء زائد على دولة مثقلة بالأولويات؟ أم فرصة ثمينة لا نراها؟ هل نعتبرها ترفًا نرجئه إلى “زمن الرخاء” الذي لا يأتي؟ أم استثمارًا طويل الأمد في الإنسان، وفي وعيه، وخياله، وإرادته في البناء؟ السؤال الحقيقي لم يعد: “هل تستطيع الدولة تمويل الثقافة؟”، بل أصبح: “هل نستطيع الاستمرار كمجتمع بلا خيال؟ بلا ذاكرة؟ بلا أفق؟”. حين يصبح الخيال ترفًا، يصبح البقاء نفسه محلّ شك.
لقد آن الأوان أن نعترف بأن الثقافة ليست عبئًا على الاقتصاد، بل شريكًا له. بل قد تكون هي المفتاح الأكثر نعومة، وعمقًا، وتأثيرًا لبناء اقتصاد متجدد، مرن، يراهن على الذكاء الجمعي. ولهذا، فإننا نقترح اليوم فكرة بسيطة، واقعية، وعادلة: أن تعتمد الدولة مبدأ “1% للثقافة” من أرباح الشركات الخاصة والعمومية، سواء عبر قانون ملزم أو عبر آلية تشاركية محفّزة، تؤمن بأن للإبداع مكانًا لا يقل شأنًا عن الصحة والتعليم والبنية التحتية. لماذا 1% فقط؟ لأنّ هذه النسبة ليست مطلبًا تعجيزيًا ولا حملاً يُثقل كاهل أحد، بل تمثّل الحد الأدنى من الوفاء من مؤسسات تستفيد من الاستقرار النسبي الذي تؤمّنه الدولة، ومن اليد العاملة، ومن البنية التحتية، ومن السوق المحلية، ومن رأس المال الرمزي لهذا البلد. مثلما تأخذ، عليها أن تُعيد بعضًا من هذا الجميل للمجتمع في شكل دعم مستدام للثقافة.
تخيّلوا فقط ما الذي يمكن أن يحدث لو خصّصت المؤسسات الكبرى 1% من أرباحها سنويًا لتمويل المشاريع الثقافية: إنشاء مكتبات عامة في الأحياء الفقيرة، إعادة فتح دور السينما المغلقة، إطلاق برامج إقامة فنية للمبدعين، تمويل منح الكتابة والنشر، ترميم المواقع الأثرية، تطوير منصات رقمية للفنون، أرشفة الذاكرة الوطنية، دعم الفرق المسرحية الشابة، وخلق ديناميكية ثقافية حقيقية في المدن الداخلية. هذا ليس خيالاً جامحًا، بل حساب بسيط، نعرف تكلفته ونُدرك جدواه. فالثقافة ليست مجرد قصيدة تُلقى أو لوحة تُعرض، بل هي صناعة ضخمة، تخلق وظائف مباشرة وغير مباشرة، وتُغذّي قطاعات بأكملها: من التصميم إلى البرمجة، ومن الترجمة إلى الإدارة الثقافية، ومن التسويق إلى الإضاءة والصوت والهندسة. الاستثمار في الثقافة هو استثمار في اقتصاد جديد بالكامل، قائم على الإبداع والمعرفة، لا على استهلاك موارد مستنزفة.
الدولة التي تدعم الثقافة لا تنفق، بل تبني. تبني وعيًا. تبني تماسكًا اجتماعيًا. تبني مناعة ضدّ العنف والتطرف واليأس. الثقافة تخلق مواطنًا قادرًا على الحلم، على النقد، على الاختلاف، على الحب، على تجاوز أزماته الجماعية والفردية بشكل سلمي وخلاق. ولهذا فإننا بحاجة اليوم إلى الانتقال من “ثقافة التسوّل” إلى ثقافة الشراكة: على الدولة أن تكفّ عن التعامل مع الفنان كطالب صدقة، وعلى القطاع الخاص أن يتحمّل مسؤوليته كمواطن اقتصادي له دور اجتماعي. المؤسسة التي تدعم الثقافة لا تقوم بإحسان، بل تُشارك في صناعة مجتمع أذكى، أكثر توازنًا، وأقدر على المواجهة. مثلما أصبحت مفاهيم “الاقتصاد الأخضر” و”العدالة البيئية” جزءًا من المنظومة العالمية، فإن “العدالة الثقافية” هي المعركة القادمة، التي يجب أن نخوضها بذكاء، بجرأة، وبثقة.
وإذا أردنا أمثلة، فها هي أمامنا: فرنسا تلزم بعض المقاولين بتخصيص جزء من كلفة مشاريعهم الفنية لفن الفضاء العام؛ كندا تموّل صناديق للفنانين بشراكة بين الدولة والقطاع الخاص؛ أمريكا اللاتينية تشرّع قوانين تلزم الشركات بالمساهمة في دعم الإبداع المحلي كجزء من مسؤوليتها المجتمعية. إذًا، لسنا نخترع العجلة، بل نقترح آلية ذكية لتفعيل ما أهملناه طويلًا. والآن، دعونا لا نؤجّل الخيال. لا نؤجّل القصيدة، والمسرحية، واللحن، والحلم إلى أجل غير مسمّى.
قد تكون نسبة 1% قليلة في نظر البعض، لكنها في حقيقتها كبيرة في أثرها، لأنها تحمل رسالة واضحة: نحن نراكم. نراهن عليكم. نؤمن بكم. والفنّانون في تونس لا ينقصهم الخيال ولا الإرادة، بل التشريعات الحامية، والسياسات الجريئة، والتقدير الحقيقي. لقد سئموا “الورشات والندوات”، وآن الأوان للشجاعة السياسية أن تتقدّم الصفوف. فلنُقرّ قانونًا يُلزم الشركات بنسبة 1% من أرباحها للثقافة، ولنخلق عقدًا جديدًا بين الاقتصاد والخيال. لأنّ تونس التي نريدها غدًا لا تُبنى فقط بالإسمنت والحديد… بل بالشعر، والمسرح، والفن، والأمل.