No Widgets found in the Sidebar
إذا كانت لغتنا قد صاغت ماضينا، فهل نحن مستعدون أن نجعلها تصوغ غدنا أيضًا؟

(متابعة سيماء المزوغي)

في عالم تتصارع فيه اللغات كما تتصارع الأمواج على شواطئ الوقت، تقف اللغة العربية، مثقلةً بتاريخها، متطلعةً إلى غدها، تتساءل لا عن بقائها فقط، بل عن قدرتها على أن تكون جزءًا من صناعة المستقبل لا مجرد ذكرى عابرة في كتب التاريخ. لم يعد يكفي أن نعتز بلغتنا في الخطب والمهرجانات، ولا أن نرثيها بالقصائد في مواسم الحنين، فاللغة اليوم تعيش أو تموت بقدر ما تستطيع أن تحجز لنفسها مكانًا في منظومات الذكاء الاصطناعي، أن تبرمج وتُبرمج، أن تُقرأ بعيون الآلة كما تُتغنى بها ألسنة البشر.

وفي هذا الزمن الحاسم، لم تكتفِ المملكة العربية السعودية بأن تراقب المشهد، ولا أن تبكي على الأطلال، بل قررت أن تجعل العربية لاعبًا أساسيًا في معادلة الغد، فتحركت بخطى مدروسة ورؤية طويلة النفس، وكان من ثمار هذا الحراك تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، الذي لا يحمل فقط همّ صيانة اللغة، بل يسعى لتمكينها وإطلاقها في فضاءات لا سقف لها.

لم يكن تأسيس المجمع تجميدًا للغة داخل متحف الذكريات، بل كان إعلانًا بأن العربية قادرة، إذا امتلكت أدوات العصر، أن تكون شريكة في الثورة الرقمية، وحاضنة للمعرفة القادمة. ولأن العالم لم يعد يرحم اللغات التي تعجز عن التكيف، كان لا بد أن تصبح العربية لغة برمجة، لغة تعليم ذكي، لغة تُنطق في مراكز الأبحاث بقدر ما تُتلى في دواوين الشعر. ومن هنا، أطلق المجمع مشاريع رائدة في مجالات الحوسبة اللغوية، والترجمة الآلية، وتطوير المعاجم الإلكترونية، ومعالجة النصوص، مزاوجًا بين جمال اللسان وصرامة الخوارزمية، بين عبق التاريخ ومقتضيات المستقبل.

لكن رؤية المملكة للعربية لم تتوقف عند حدود التقنية، بل امتدت لتشمل الإنسان، في كل زاوية من زوايا العالم. لذلك دعم المجمع برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها، وأبرم اتفاقيات مع جامعات عالمية، وأسس شراكات ثقافية عابرة للحدود، واضعًا نصب عينيه أن تكون العربية جسراً حضارياً لا سورًا منغلقًا، وأن تتفتح على الآخر لا لتذوب فيه، بل لتقدم نفسها لغة حياة ومعرفة وتواصل.

اليوم، ونحن نراقب تحولات الذكاء الاصطناعي والسباق المحموم نحو السيطرة على أدوات الغد، تضع المملكة العربية السعودية بذكاء شديد رهانها على اللغة العربية، لا باعتبارها ميراثًا رومانسياً، بل باعتبارها مشروع بقاء واستمرار وهوية قابلة للتجدد. فليست كل الدول التي تدّعي عشق لغتها تجرؤ على ترجمة هذا العشق إلى أفعال علمية مدروسة، إلى قرارات استراتيجية تتطلب رؤوس أموال، ومراكز بحثية، وشبكات علاقات دولية، كما فعلت المملكة، التي فهمت أن الدفاع عن اللغة لم يعد بالقصائد والخطب، بل بالأكواد البرمجية، ببراءات الاختراع، بمراكز الابتكار.

إن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية لا يرمم أطلالًا، بل يبني جسورًا، لا يكتب رثاء، بل يزرع بذورًا جديدة في تربة التقنية والعلوم، يزرعها بإيمان أن العربية قادرة أن تكون لغة للمعرفة المستقبلية، وأن من حقها أن تشارك في إعادة صياغة العالم، لا أن تكتفي بالتغني بماضٍ مجيد.

تحت سماء تزداد ازدحامًا باللغات والرموز والشفرة الرقمية، تختار المملكة العربية السعودية أن تضع للعربية مقعدًا بين الكبار، لا بالاستعطاف، بل بالعمل الدؤوب، لا بالادعاء، بل بالإنجازات الملموسة، مدفوعةً بإيمان عميق أن من يملك لغته، يملك مفتاح وجوده، وأن من يراهن على لغته اليوم، يراهن على موقعه في مستقبل لا يعترف إلا بالأقوياء القادرين على التجدد.

وهكذا، تكتب المملكة العربية السعودية، عبر مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، فصلًا جديدًا في قصة الضاد، فصلًا لا يقف عند حراسة الذاكرة، بل يتطلع إلى إشعال شموس جديدة في سماء لم نبلغها بعد، ويطرح علينا سؤالًا لا بد أن نواجهه:
إذا كانت لغتنا قد صاغت ماضينا، فهل نحن مستعدون أن نجعلها تصوغ غدنا أيضًا؟