No Widgets found in the Sidebar
المسرح لا يُشفي بالمعنى الطبي البارد، لكنه يواسي، يُضيء، يُصادق الجراح. في زمن تتكدّس فيه الصدمات وتضيق فيه سبل القول

بقلم: سيماء المزوغي

منذ نشأته، لم يكن المسرح مجرد فن استعراضي أو تسلية عابرة، بل شكّل طقسًا إنسانيًّا جامعًا، تُمارَس فيه الطقوس الجماعية، ويُعكف خلاله على تمثّل المشاعر والرغبات والكوابيس الإنسانية. وبينما احتفى الفلاسفة بالشعر، ميّز أرسطو المسرح التراجيدي باعتباره وسيلة للتطهير النفسي والعاطفي، ممهّدًا بذلك لفكرة الكاثارسيس الشهيرة. عبر القرون، لم تتوقف هذه الوظيفة النفسية للمسرح، بل تعمّقت وتطورت لتتداخل اليوم مع علم النفس، لتُثمر ما نعرفه حديثًا باسم “الدراما العلاجية” أو “العلاج بالتمثيل”. يهدف هذا المقال إلى تفسير الأبعاد النفسية للمسرح، واستكشاف كيفية مساهمته في شفاء الإنسان من صدماته، من خلال مفهومي الكاثارسيس الأرسطي والتحرر من الصدمة كما تُفهم اليوم في العلاج النفسي.

الكاثارسيس الأرسطي – حين يتطهر المتفرج من آلامه

الكاثارسيس (Katharsis) مفهوم مركزي في الفلسفة الأرسطية، وهو يُشير إلى التطهير العاطفي أو التنفيس النفسي الذي يحدث للمشاهد من خلال متابعته للتراجيديا. أرسطو في كتابه “فن الشعر”، يرى أن المسرحية التراجيدية تُحرّك مشاعر الخوف والشفقة لدى الجمهور، فيتطهر منها عبر تجربة وجدانية جمالية. ليس المطلوب أن يعيش المتفرج الحدث بشكل مباشر، بل أن يمر به وجدانياً من خلال التماهي مع البطل التراجيدي. هذه الرحلة الشعورية تُحدث نوعًا من التوازن الداخلي وتُفرغ الشحنة العاطفية السلبية. وقد تكون هذه أولى لبنات المسرح العلاجي، حيث تُعاش التجربة دون التورط العملي فيها، لكنها تترك أثرًا ملموسًا في النفس.

من المسرح إلى العلاج – نشأة الدراما العلاجية

 

حين يُعرض وجع فردي على الركح، ويتحوّل إلى مادة مسرحية، تحدث عملية انتقال من الخاص إلى العام. لا يعود الألم حكرًا على صاحبه، بل يتحول إلى تجربة إنسانية جماعية، يجد فيها الآخرون صدى لآلامهم.

مع تطور مدارس العلاج النفسي في القرن العشرين، بدأ بعض المعالجين باللجوء إلى المسرح كأداة فعالة في التعامل مع الصدمات. “الدراما ثيرابي” (Drama Therapy) ليست مجرد تمثيل، بل إعادة بناء للقصص الشخصية، وتحويلها إلى مشاهد تُعرض أو تُعاش ضمن إطار علاجي. في هذا السياق، يتحول الفرد من كائن سلبي متألم إلى ذات فاعلة تروي، تُمثل، تُواجه وتُعيد كتابة الماضي. عملية التمثيل هنا ليست هدفًا جماليًّا بقدر ما هي وسيلة لإعادة التملّك النفسي للتجربة المؤلمة. كما تسمح بالتحرر من عبء الصدمة عبر التعبير الآمن والموجّه.

الجسد يتكلّم: الذاكرة الجسدية في مواجهة الألم

يُجمع عدد من الباحثين في علم النفس العصبي والجسدي، مثل بيسيل فان دير كولك في كتابه “الجسد يحتفظ بالعلامة” (The Body Keeps the Score)، على أن الصدمات لا تُختزن فقط في الذهن بل أيضًا في الجسد. التوتر العضلي، القلق المزمن، واضطرابات النوم كلها علامات على صدمات غير معالجة. المسرح، بصفته فنًّا يعتمد على الجسد والصوت والحركة، يُعد مساحة مثالية لاستدعاء هذه الذكريات الجسدية والتعامل معها. حين يستخدم المُمثل جسده في تجسيد تجربة ألم أو مقاومة أو صمت، فإنه يُحرّر ذاته من القيود التي فرضتها عليه الصدمة. هكذا يتحول المسرح إلى حلبة لاستعادة السيادة على الجسد، وبالتالي على النفس.

من الذات إلى الجماعة، المسرح كوسيلة للشفاء الجماعي

حين يُعرض وجع فردي على الركح، ويتحوّل إلى مادة مسرحية، تحدث عملية انتقال من الخاص إلى العام. لا يعود الألم حكرًا على صاحبه، بل يتحول إلى تجربة إنسانية جماعية، يجد فيها الآخرون صدى لآلامهم. هذا ما نراه في مسرحيات تتناول الحرب، العنف، القمع، الهجرة، أو التحرّش. عبر هذا الشكل من التمثيل، ينشأ شعور بالتضامن، ويحدث نوع من التآزر العاطفي الذي يُسهم في الشفاء الجماعي. وهنا يكتسب المسرح بعدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا بامتياز، إذ يُعطي صوتًا لمن كُتم صوته، ويُقدّم روايات بديلة للتاريخ الرسمي.

دراسات حالة وتجارب ميدانية

لا تقتصر أهمية المسرح العلاجي على النظريات، بل تثبتها تجارب ميدانية مؤثرة. في لبنان، مثلاً، استخدمت بعض الجمعيات المسرح مع اللاجئين السوريين لمساعدتهم على التعامل مع آثار الحرب. في تونس، ظهرت مبادرات مسرحية في الأحياء الشعبية تُعنى بالمراهقين ضحايا العنف الأسري أو الاجتماعي. كما طوّرت بعض الفرق نماذج مستوحاة من “مسرح المضطهدين” لأوغستو بوال، حيث يُشجَّع المشاركون على إعادة تمثيل مواقف الاضطهاد، والبحث عن حلول بديلة في سياق جماعي. في المغرب، استُخدم المسرح في السجون كوسيلة لإعادة التأهيل الاجتماعي، مما سمح للنزلاء بالتعبير عن مشاعر الذنب، الأمل، والحرية المفقودة.

اللغة، الخيال، والرمز – أدوات شفاء عميقة

ما يجعل المسرح مميزًا عن باقي أنواع العلاج هو طبيعته الرمزية. فهو لا يواجه الصدمة مباشرة كما في العلاج السردي الكلاسيكي، بل يلتف حولها، يُحوّلها إلى صورة، حركة، كلمة، أو صمت معبّر. هذه الرمزية تتيح للذهن مسافة آمنة للتأمل والتفكيك، دون الوقوع مجددًا في براثن الألم. كما يُحرّك المسرح الخيال، فيفتح احتمالات جديدة للتفكير، ويُساعد في تخيل نهاية بديلة أو سرد مغاير لما حدث. وبهذا يُحرر الإنسان من قبضة الحدث الواحد ويمنحه أفقًا جديدًا.

لا يمكن للمسرح أن يحل محل العلاجات النفسية التقليدية، لكنه يقدّم إمكانيات فريدة للشفاء لا يمكن تجاهلها. إنه مساحة لعب وجدية، رمزية وواقعية، صمت وصراخ. هو المكان الذي يلتقي فيه الإنسان بظله، ويصالح فيه جسده مع ذاكرته، ومجتمعه مع تاريخه. وفي زمن كثرت فيه الجراح وتراجعت فيه مساحات البوح، يبدو المسرح كأحد أكثر الأدوات الإنسانية صدقًا وعمقًا في مرافقة الإنسان نحو شفاءٍ ممكن، نحو استعادة صوته، جسده، وسيرته كما يريد هو أن يرويها.

المراجع:

Aristotle, Poetics.

Jonathan Fox & Phil Jones, Drama as Therapy: Theory, Practice and Research.

Bessel van der Kolk, The Body Keeps the Score.

Augusto Boal, Theatre of the Oppressed.

تجارب ميدانية من تونس والمغرب ولبنان ضمن ورشات “المسرح المجتمعي” و”مسرح السجون”.