في قلب الأدب السعودي المعاصر، تبرز بدرية البشر كأيقونة من الإبداع الذي لا يقتصر على السرد وحده، بل يمتد ليكون فعل مقاومة ضد محو الذاكرة الثقافية والتاريخية. إن أعمالها الأدبية ليست مجرد قصص تُحكى، بل هي رحلة تسافر بالقارئ إلى أعماق المجتمع، لتستكشف تفاصيله الإنسانية، وتطرح الأسئلة الكبرى حول الذاكرة، الهوية، والحرية.
في حديثها اليوم في معرض الكتاب بتونس في دورته التاسعو والثلاثين يوم السبت 26 أفريل 2025، والتي تناولت فيه “الرواية والمقاومة: تجربة الكتابة في مقاومة ضياع الذاكرة”، شددت بدرية البشر على أن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها مقاومة محو الذاكرة التاريخية، الاجتماعية، والثقافية. وعبرت عن إيمانها بأن الرواية هي أداة استرداد لكل ما فُقد أو تم تهميشه، ومن خلال أعمالها، تسعى إلى إعادة إحياء الذاكرة الجمعية وإضاءة جوانب مظلمة من تاريخ المجتمع العربي.
البحث عن الذاكرة في عوالم الرواية
من خلال جميع أعمالها الروائية، تسعى بدرية البشر إلى استكشاف التاريخ الاجتماعي، والنضال النفسي للأفراد في مجتمعاتها. في كل رواية، هناك مقاومة صامتة، ولكن مؤثرة، ضد محاولات النسيان التي قد تحاول محو تفاصيل حياتية صغيرة لكنها عميقة.
من بين أهم سمات كتابات بدرية البشر هي قدرتها على نقل الذاكرة الشفوية للأفراد إلى الذاكرة الأدبية. عبر رواياتها، تروي قصص الناس الذين ينسونهم التاريخ وتفتح أبوابًا للحديث عن الأشخاص العاديين الذين يصنعون بطريقتهم الخاصة التاريخ المفقود. في أعمالها، تجد أن الكتابة ليست مجرد وثيقة، بل هي استرجاع للهوية الفردية والجماعية.
روايات بدرية البشر: بين الواقع والأمل
“أعشقك أكثر”، “غراميات شارع الأعشى”، وغيرها من الروايات التي أثرت الأدب السعودي والعربي، تظهر بدرية البشر ككاتبة جريئة لا تخشى من الغوص في أعماق الروح الإنسانية. في كل رواية، هناك حكاية لم تُسَرد من قبل، هناك نساء غير مرئيات في المجتمع، هناك أزقة وأماكن طالما تم تجاهلها، ولكن بدرية تتمكن ببراعة من جعل هذه الأماكن والكلمات محورية في سردها الأدبي.
أعمالها كلها تشير إلى الذاكرة المفقودة، وتستعرض كيف أن الشخصيات التي تكتب عنها لا تستطيع الهروب من تاريخها الشخصي والاجتماعي. في هذا السياق، تقدم بدرية البشر نقدًا اجتماعيًا لاذعًا، ليس فقط عن الواقع السعودي، ولكن عن المجتمعات العربية بشكل عام. تتطرق إلى الطبقات الهامشية، وتُعطي صوتًا لأولئك الذين يعتقد المجتمع أنهم لا يستحقون أن يكون لهم صوت.
إبداعها الأدبي كفعل مقاومة
بدرية البشر، في مقاربتها للكتابة، لا تقتصر على الكتابة عن الأنماط التقليدية، بل تبتكر شخصيات وأحداثًا تمثل دائمًا قوة مقاومة ضد الرتابة التاريخية، وضد محاولات التهميش التي تتعرض لها النساء، والأشخاص المنتمين إلى الطبقات الاجتماعية الأقل حظًا. كل رواية تكتبها تنقل القارئ إلى مناطق محظورة، حيث يعيش البشر بصدق، بحلم، وبمقاومة.
إنها تكتب عن الهوية العميقة للمجتمع السعودي، عن قضاياه التي تم التغاضي عنها، وعن الأحداث الصغيرة التي تُعبر عن قصص عميقة متجذرة في الزمن والمكان. بدرية البشر لا تكتب فقط عن الناس، بل عن الفكرة التي تتجسد من خلالهم، عن مقاومة فردية ضد الجبر الاجتماعي، والظروف القاسية التي تُحاك ضد الإنسان.
الأسلوب الأدبي: الرقة والجرأة في آن واحد
ما يميز بدرية البشر عن العديد من الكتاب هو أسلوبها الفريد الذي يمزج بين الرقة والجرأة. إنها لا تخشى أن تفضح المسكوت عنه، ولكنها في ذات الوقت لا تفقد اللمسة الأدبية الرقيقة التي تحافظ على جمال السرد. أسلوبها الأدبي يثير في نفس القارئ مشاعر الاستفهام والبحث، فتدفعه للغوص في أعماق النصوص واستخلاص ما وراء الكلمات.
تتمثل قوة بدرية البشر في قدرتها على استخدام الرمزية بشكل حاذق، فتجعل الشخصيات في رواياتها تتحول إلى رموز اجتماعية وثقافية، مما يعزز من عمق الرسالة التي تحملها أعمالها.
كتابة بدرية البشر: دعوة لإعادة النظر في الماضي والحاضر
من خلال كل عمل أدبي تقدمه، تدعو بدرية البشر قراءها إلى إعادة النظر في الماضي بكل ما فيه من عثرات وآلام، لإعادة بناء الحاضر من خلاله. من خلال رواياتها، نرى كيف يمكن للكتابة أن تكون أداة للشفاء، وكيف يمكن للكلمات أن تنقل الشخص من حالة الضياع إلى حالة التحرر الفكري والعاطفي.
بدرية البشر تقدم في كل رواية بورتريه إنساني حي، يعكس التحديات التي يواجهها المجتمع في مواجهة التحولات الكبرى. في رواياتها، تجد دائمًا مقاومة الظلم، النسيان، والتقليدية، تجد أن الذاكرة في أدبها ليست مجرد حالة عقلية، بل هي وجود فعلي يجب الحفاظ عليه عبر الأجيال.
بدرية البشر ليست مجرد كاتبة تُسطر كلمات على الورق، بل هي وثيقة حية للأجيال القادمة، تكتب تاريخًا لا يعترف بالتهميش، بل يعيد للإنسان قيمته، ولذا تظل أعمالها مقاومة مستمرة ضد كل ما يحاول محو جزء من إنسانية الإنسان. إن تجربتها الأدبية هي دعوة مستمرة للتأمل في الذاكرة، الهوية، والمقاومة، وتجسد معنى أن الكتابة لا تقتصر على توثيق الماضي، بل هي أداة تغيير وشفاء.