No Widgets found in the Sidebar
هناك قناعة بأن الفكاهة تعزّز المحادثات؛ إذ إنها تخفّف التوتر وتساعد في التقريب بين الأشخاص ووجهات النظر.

د. دانة عوض

تعدُّ المحادثة مفتاحًا لبناء علاقات اجتماعية، سواء في المنزل أو في الجامعة أو في العمل. تساعد الفكاهة خلال المحادثة على تكوين الانطباع الأوّل عن المتحدث. فالشخص الذي يمتلك روح الدعابة هو ذكي اجتماعيًّا وسريع البديهة، ويترك انطباعًا إيجابيًّا لدى الأشخاص الذين يتمتعون بروح النكتة. وقد تترك الفكاهة أيضًا انطباعًا سلبيًّا لدى الأشخاص المفتقِرين لروح الدعابة؛ إذ يصعب عليهم تفسيرها، وهنا تموت الفكاهة ولا يبقى لها أي صدى. فكما يقول الكاتب “إي بي وايت” إنّ تفسير الفكاهة يشبه تشريح كائن ميّت لا مجال لإحيائه. ويكمن ذكاء الشخص الذي يتمتع بحسّ الفكاهة باختياره للفكاهة نفسها. فالفكاهة ليست مزاحًا عفويًّا، بل تُستخدم في وقت مناسب للتأثير على الأشخاص ولإدارة الحوار والمحادثات.

 بشكل عام، هناك قناعة بأن الفكاهة تعزّز المحادثات؛ إذ إنها تخفّف التوتر وتساعد في التقريب بين الأشخاص ووجهات النظر. ولكن الفكاهة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافة الأشخاص وبمستواهم العلمي، وأيضًا بأعمارهم. فالأطفال، مثلًا، يستجيبون للفكاهة “التهريجيّة” المرتبطة بحركات الجسد وتعابير الوجه، بينما يستند البالغون إلى اللعب على الكلمات، وإلى ربط الكلمات بسياق اجتماعي، وإلى السرد أحيانًا. فالمحادثة الجيّدة لا ترتبط دائمًا بالجدّية والعمق، بل إن المحادثة الخفيفة، أو إضافة بعض التعابير الطريفة إلى المحادثات الجدية، تخلق نوعًا من التواصل الفعّال والاحترام المتبادل؛ لأنّها تُوحي بالانفتاح على الآخر وتَقبّله.

وللفكاهة مرادفات متعددة في اللغة العربية تدل كلٌّ منها على طبيعة التواصل وطبيعة العلاقة بين الأشخاص: فالتهريج هو الفكاهة الطفوليّة المرتبطة بحركات جسدية وتغيير في نبرة الصوت وتعابير الوجه. والمزاح هو رديف للنكتة التي تُلقى بشكل قصصي مثل النكات التي توسَم بالبخل أو البلاهة. أمَّا الهزل، فهو الجزء السلبي من الفكاهة، الذي يعبّر عن السخرية والاستخفاف بقول الشخص. وقد استُخدم الهزل قديمًا عند العرب، ولا يزال، بوصفه نوعًا أدبيًا يهدف إلى إلقاء الضوء على بعض الموضوعات الاجتماعية، وهو ما يُعرف بـ”الأدب الساخر” مثل أعمال الجاحظ وتوفيق الحكيم وغيرهما.

تعبّر جميع المفردات السابقة عن الوجوه المتعددة للفكاهة، وهي تستند إلى ثقافة الشخص وخبراته الحياتية ومستواه العلمي، وأيضًا البلد الذي ينتمي إليه، ولا شك أنها عامل من عوامل المحادثة الجيّدة. تعزِّز الفكاهة المحادثات عن طريق خلق تواصل فعّال وتعزيز التفاعل بين الأشخاص. كما تُسهم في تقوية التركيز والانتباه عند إلقاء المحاضرات وفي الدورات التدريبية التفاعلية، وتساعد على تقريب وجهات النظر وزيادة مشاعر الودّ والاحترام بين الأفراد.

دور الفكاهة في التواصل الفعّال

أوّل دور يتبادر إلى الأذهان للفكاهة في تعزيز المحادثة الجيدة، هو أنها تحسّن عملية التواصل. فاستخدامها بشكل لائق يُضفي نوعًا من الانفتاح والمرونة في التواصل، كما يكسر الحواجز النفسية التي تعيق التفاعل بين الأشخاص. فلدى الأشخاص الذين يمتلكون حسّ الفكاهة قدرة على جعل الحديث أسلس، ويُتيح لهم التطرّق إلى موضوعات حسّاسة. مثال على ذلك، استخدام الفكاهة في تواصل الأهل مع أولادهم المراهقين والمتمردين عليهم يكسر الحاجز النفسي بينهم، ويشجّع المراهق أو المراهقة على الحديث. وعندما يمتلك المدير حسّ الفكاهة ويبدأ اجتماعًا بنكتة خفيفة، يساعد ذلك في تخفيف التوتر والجو الجاد، فيشعر الموظفون بارتياح أكبر، وذلك يجعل المدير أكثر إلمامًا بما يدور في بيئة العمل من مشكلات، ويفتح بابًا لتلقّي الشكاوى وإبداء الموظفين رأيهم الصادق في بيئة العمل، مع كل ما في ذلك من نتائج إيجابية.

دور الفكاهة في بناء العلاقات

تُسهم الفكاهة في خلق روابط عاطفية تتضمن الودّ وبناء الثقة بالشخص، وتعزّز بذلك التفاهم المتبادل. مثلًا، قد تعزّز الفكاهة في مكان العمل التعاون والعمل الجماعي بين الزملاء؛ لأنها تعطي نوعًا من المصداقية في المحادثة، وتقوّي الثقة بين الزملاء. وتساعد الفكاهة على التواصل بين أشخاص من ثقافات وخلفيّات مختلفة، فالضحك مفضَّل ومشترك بين الجميع بغضّ النظر عن اختلافاتهم. ونذكر، في هذا الإطار، محاضرة كان موضوعها تقنيًّا ودقيقًا جدًّا وكان يلقيها خبير من الهند، وفي وسط المحادثة سأل سؤالًا جادًّا، مع تمييل رأسه يمينًا ويسارًا، تلاها بنكتة عن هذه الحركة في بلده، وهو ما جعل جميع الحاضرين الآتين من ثقافات مختلفة يضحكون، ونشّط ذلك من تركيزهم وعزّز انتباههم لقول الخبير.

دور الفكاهة في تخفيف التوتّر

تعدُّ الفكاهة أداة قوية لإزالة التوتّر، ويعي ذلك القادة أو من يعملون في مهن تتطلّب قيادة مجموعة أو فريق؛ فيستخدمها المعلّم المتمكّن لتخفيف التوتّر لدى الطلبة، ويستخدمها المدير وزملاء العمل لتخفيف التوتّر عند المتدرّب أو الموظّف الجديد، وهو ما يترك انطباعًا إيجابيًّا عن مكان العمل ويزيد من إنتاجيتهم. كما تُسهم الفكاهة في حلّ التوترات التي قد تحصل أثناء المحادثات بسبب اختلاف الآراء، وإن كان مؤقتًا. فإضافة تعليق فكاهي في الوقت المناسب قد يعيد المحادثة إلى مسارها الصحيح، وقد تُسهم كذلك في إيجاد حلٍّ وسط وإعطاء الأشخاص فرصة لرؤية الأمور من منظور الشخص الآخر. فمثلًا، إن سرد موقف مشابه بأسلوب فكاهي باستخدام شخصيات أخرى متخيّلة، قد يعطي فرصة للأشخاص للانفتاح على الرأي الآخر.

الجانب السلبي للفكاهة

على الرغم من الفوائد العديدة للفكاهة في المحادثات، فإنه ينبغي أن تكون مناسِبة للزمان والمكان اللذين تُستخدم فيهما، فلكلِّ مقامٍ مقال. فيجب أن تكون الفكاهة مدروسة كي لا تجرح الأشخاص، حتى المقرّبين، وكي لا تؤثر سلبًا في العلاقات أو في الوضع الاجتماعي والعملي للشخص. فيجب استخدام الفكاهة وفقًا للسياق الاجتماعي وعدم استخدامها بشكلٍ زائد عن الحدِّ؛ لأن ذلك يؤثّر سلبًا في الانطباع وفي الأثر النفسي الذي يتركه الشخص. فالفكاهة تولّد انطباعًا إيجابيًا لدى الشخص، لكن إن زادت عن حدّها تحوّل هذا الانطباع إلى ضعف شخصية وخفّة. وقد تسمح زيادة الفكاهة عن حدّها للأشخاص بتجاوز حدودهم، وهو ما يؤثر سلبًا في العلاقات.

إضافة إلى ذلك، ربَّما لا يتقبّل الجميع الفكاهة بالطريقة نفسها. وقد يفضّل بعض الأشخاص الجديّة في التعامل، كما قد يكون لديهم خلفيات شخصية أو ثقافية تجعلهم حسّاسين اتجاه الفكاهة أو اتجاه نكتة معينة، وهو ما يغيّر من مسار المحادثة إلى اتجاه مختلف من تفسير أو تبرير للموقف. لذلك، يجب على الفرد أن يكون واعيًا لثقافة المتحدثين الآخرين ولمكانتهم.

ثمَّ إن هناك فكاهة مرفوضة من دون الحاجة لذكر ذلك؛ لأنّها مرفوضة إنسانيًّا من جميع الثقافات وتعدُّ سخرية جارحة، مثل ذكر إعاقات عقلية، أو جسدية، أو عِرق، أو دين، أو جنسية معيّنة. فليس هناك أيّ موقف تعدُّ فيه هذه الفكاهة مقبولة.

ختامًا، في العالم المعاصر، الذي يتسم بكثير من الضغوطات والتحديات، يمكن القول إن الفكاهة هي المفتاح لجعل المحادثات أصحّ وأنجح. ويجب اعتبار الفكاهة مهارة حياتية يمكن تعلّمها مع العمر ومع زيادة الخبرات الحياتية. فأكثر المحدّثين اللبقين، على مختلف مستوياتهم، لم يولدوا كذلك، بل نمت القدرة على إضافة حسّ الفكاهة في المحادثات لديهم، إمَّا عن طريق ازدياد علاقاتهم الاجتماعية، وإمَّا عن طريق التدريب على هذه المهارة.