No Widgets found in the Sidebar
كيف نعيد تعريف الهوية حين يخبرنا العلم أن لا أصل واحد لنا؟

لطالما ارتبطت قرطاج في المخيال العام بمستعمرة فينيقية نشأت في شمال إفريقيا على يد الملكة “أليسار”، وامتدت لتصبح قوة بحرية وتجارية هائلة قبل أن تدمّرها روما. هذا التصور الكلاسيكي، المتداول منذ قرون، بدا متماسكًا بفضل السرديات التاريخية المكتوبة من خارجها، تحديدًا من اليونان وروما.
لكن في ظل تطور أدوات علم الأركيولوجيا الجينية، لم تعد الرواية التاريخية تكتفي بالنصوص والأساطير، بل صار الحمض النووي نفسه وثيقة تنطق بما طُمِس أو لم يُكتب.

في دراسة علمية نُشرت في أفريل 2024 بمجلة Nature تحت عنوان:
“A Genetic History of the Phoenician Settlement of the Central Mediterranean”
قام فريق دولي من الباحثين بتحليل الحمض النووي لـ 200 رفات بشري يعود لما بين 800 قبل الميلاد و200 بعد الميلاد، وُجدت في مواقع متعددة: قرطاج (تونس)، صقلية، سردينيا، مالطا، إيبيريا.

أهداف الدراسة

  • إعادة بناء البنية الوراثية للسكان الذين عاشوا في الحقبة الفينيقية والقرطاجية.

  • اختبار الفرضية القائلة بأن الفينيقيين حافظوا على “هوية جينية مميزة” خلال توسعهم عبر البحر المتوسط.

  • تتبع التنقلات البشرية وتأثيراتها على التكوين العرقي والاجتماعي للمنطقة.

النتائج: قرطاج لم تكن صدى لفينيقيا، بل مختبرًا للانصهار

  1. لا نقاء في الجينات
    أظهرت النتائج أن سكان قرطاج وضواحيها لم يحملوا جينات فينيقية خالصة، بل كانوا مزيجًا من:

    • شمال إفريقيا (الأمازيغ والليبيين القدماء)

    • شعوب الجزر الإيطالية (صقلية وسردينيا)

    • سكان الجزر الإيجية

    • إيبيريين من شبه الجزيرة الإسبانية

    • وبنسبة أقل، عناصر من المشرق (صور وبلاد الشام)

  2. علاقات دموية عابرة للمتوسط
    وُجد أن اثنين من الأفراد المدفونين، أحدهما في قرطاج والآخر في صقلية، كانا على صلة قرابة مباشرة من الدرجة الأولى أو الثانية، مما يشير إلى وجود تداخل سكاني وتزاوج فعلي بين ضفّتي المتوسط.

  3. الحالة الفريدة لشاب “بيرصا”
    أحد الأفراد، المدفون في موقع بيرصا الأثري بتونس، يحمل مزيجًا وراثيًا نادرًا فيه أثر واضح للحمض النووي الإيبيري، وهو ما يعكس حجم التداخل السكاني الذي لم توثقه الكتابات القديمة.

  4. رفض الانغلاق الوراثي
    بخلاف التصور السائد عن الفينيقيين كمجموعة محافظة ومنغلقة على هويتها، تبيّن أن المشروع القرطاجي قام على استقبال الآخر والتفاعل معه، لا على فرضية النقاء.

الخلاصات العلمية والاجتماعية

  • تطرح الدراسة تصورًا مغايرًا عن الهوية القرطاجية، باعتبارها “هوية مركّبة”، لا تتشكل من أصلٍ واحد، بل من تراكمات بشرية متعددة.

  • تؤكد النتائج على أن المتوسط في العصر القديم لم يكن حاجزًا، بل معبرًا للتزاوج والتبادل الجيني والثقافي.

  • تشكك الدراسة في التصنيفات العرقية التي يفرضها التاريخ الرسمي على الحضارات القديمة، وتدعو إلى قراءة جديدة للهويات القديمة بمنظور علمي متحرر من النزعة القومية أو الرومانسية.

أسئلة مشروعة تفرض نفسها بعد هذه الدراسة

  • إذا لم تكن قرطاج فينيقية خالصة، فهل نملك اليوم الشجاعة لإعادة كتابة تاريخنا بعيدًا عن الأساطير التأسيسية؟

  • ما الذي يخيفنا في فكرة أن أصولنا “مُختلطة”؟ ولماذا نُصرّ على وهم النقاء؟

  • كيف نعيد تعريف الهوية حين يخبرنا العلم أن لا أصل واحد لنا؟

  • هل نقرأ هذه الدراسة كأداة معرفية، أم كتهديد لهوياتنا القومية المصطنعة؟

  • وأخيرًا: هل يمكن أن تكون قرطاج القديمة درسًا للحاضر؟
    حضارة نهضت من التعدد والتلاقي، لا من الاصطفاء والانغلاق.


إن دراسة الأصول الجينية لسكان قرطاج لا تسقط الأسطورة، بل تُحررها من قيد التبسيط. فقرطاج لم تكن فينيقية فحسب، بل كانت ملتقىً للآتين من كل الجهات، وأحفادها، شئنا أم أبينا، يحملون اليوم هذا الإرث الوراثي والثقافي في خلاياهم.
ولعل هذا ما يُقلق البعض ويُحرر آخرين.

المراجع والمصادر العلمية:

  1. Zalloua, P., Fernandes, D. M., Sarno, S., et al. (2024). A Genetic History of the Phoenician Settlement of the Central Mediterranean. Nature.
    https://www.nature.com/articles/s41586-024-07274-2

  2. Fernández-Domínguez, E., et al. (2022). Ancient DNA and Mediterranean mobility: genetic evidence from Iron Age Phoenician and Punic populations. Current Biology, 32(9), 1951-1960.e8.
    https://doi.org/10.1016/j.cub.2022.03.014

  3. Stoddart, S. (2020). Power and Place in the Prehistoric Mediterranean: The Case of the Punic World. Cambridge University Press.

  4. López-Ruiz, C. (2010). When the Phoenicians Crossed the Sea: Mediterranean Trade and Colonization in the Early First Millennium BC. In Phoenicians and the Making of the Mediterranean (pp. 63–85). Harvard University Press.

  5. Horden, P., & Purcell, N. (2000). The Corrupting Sea: A Study of Mediterranean History. Oxford: Blackwell.