في كتابه Le Livre de ma Vie، الذي يمكن ترجمته إلى العربية بعنوان “كتاب حياتي”، يروي الكاتب محمد طاهر سوداني، الذي يستخدم اسم “طارق” كاسم مستعار في السرد، قصة حياته بتفاصيلها الدقيقة والعميقة. الراوي هنا هو بطل قصته وشاهد على أحداثها في الوقت ذاته، وهو ما يُسمى بالراوي المؤرخ الذاتي، حيث إنه يعيش الأحداث التي يرويها. من خلال هذا المنظور، يفتح لنا الراوي نافذة على حياته الشخصية، التي تتشابك فيها الذكريات، المشاعر، والتاريخ لتشكيل سرد حيوي ومعبر.
أسلوبه في السرد: أسلوب حي وعاطفي
يمتاز أسلوب الراوي بقدر كبير من الحيوية والثراء الحسي، حيث يستخدم العديد من التفاصيل الحسية التي تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش اللحظات معه. الألوان، الروائح، الأصوات، وكل ما يتعلق بالمشاعر والتجارب اليومية يظل حاضرًا في سرده. إن طريقة وصفه لمشاهد طفولته في حمام الأنف تعكس بوضوح علاقته العاطفية بهذا المكان الذي يظل خالداً في ذاكرته. وهو يروي ذكرياته مع مزيج من الحزن والحنين، ويعبر عن مشاعر عميقة تجاه ماضيه، في خليط من الحزن والتقدير.
وفيما يتنقل بين أحداث حياته الشخصية، يتجنب الراوي السرد الخطّي المباشر، بل يتنقل أحيانًا عبر انحرافات سردية يعبر من خلالها عن أفكاره وتأملاته حول الزمن والذاكرة. هذه الانتقالات لا تبدو عشوائية، بل هي جزء من أسلوبه الشخصي الذي يهدف إلى الحفاظ على صدق السرد وتقديم رؤية أعمق للأحداث والمشاعر.
الراوي: شاهد على تاريخ تونس
من خلال حديثه عن حياته، يلعب الراوي دورًا هامًا في توثيق أحداث تاريخية واجتماعية شملت تونس في العقود الماضية. في فتراته المختلفة، من خمسينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الثانية، يُظهر الراوي كيف أن الأحداث التي عاشها شكلت تجاربه الشخصية. كما أن حمام الأنف، مسقط رأسه، يمثل ليس فقط مكانًا جغرافيًا، بل هو جزء من الذاكرة الوطنية التي يعبر عنها الراوي. إذ يربط بين حياته الشخصية وتاريخ تونس، ويكشف عن التطورات الاجتماعية والسياسية التي مرّت بها.
ويستعرض الراوي في سرداته صورة المجتمع التونسي خلال هذه العقود، متناولًا التغيرات الكبرى التي شهدتها البلاد بعد الاستقلال، وخاصة في جوانبها الاجتماعية والثقافية. كما يُحافظ على ذكرى “دوريس”، المرأة الألمانية التي كانت لها أهمية كبيرة في حياته، ويجعلها تمثل أكثر من مجرد شخصية عابرة في تجربته، بل رمزًا للعلاقات الإنسانية العابرة للحدود الثقافية.
الراوي كحافظ للذاكرة
الراوي في Le Livre de ma Vie يكتب لغاية الحفاظ على الذكريات. هو لا يروي فقط تجربته الذاتية، بل يحاول أيضًا الحفاظ على الماضي في ذاكرته الحية، بما في ذلك الأشخاص والأماكن التي تركت بصمة في حياته. من خلال وصف مواقف عائلية وعملية ودراسية، يشكل الراوي سجلًا حيويًا لحقب زمنية مرّت، حيث يحاول إبقاء ذكرى الأماكن والأشخاص الذين كانت لهم تأثيرات كبيرة على حياته.
لكن الكتاب ليس مجرد عملية توثيق شخصية، بل هو محاولة من الراوي لمحاربة النسيان، ليُبقي على حضور هذه الذكريات حيًا في ضمير القارئ، وليحفظ تراثًا ثقافيًا يربط بين الأجيال. يكتب الراوي من أجل إيصال رسالة، ليس فقط عن نفسه، ولكن عن جيل كامل وأمة تحمل قصصًا وحكايات يستحق أن تُروى.
الراوي في Le Livre de ma Vie ليس مجرد ناقل للأحداث، بل هو بطل قصته، شاهد على حقب زمنية طويلة، وعاشق لماضيه، خاصة لحمام الأنف وتونس التي عاش فيها. من خلال أسلوبه السردي المميز، يعبر الراوي عن نفسه، عن الأوقات التي مر بها، والأشخاص الذين قابلهم، والأماكن التي شكلت هويته. إنه يكتب ليحفظ ذاكرته، ويحتفظ بتراثه الشخصي، ويسعى في الوقت نفسه لتوثيق تاريخ تونس عبر فصول حياته.
الكتاب، الذي كتب باللغة الفرنسية، لا يُعد مجرد سيرة ذاتية، بل هو شهادة حيّة عن التغيير الثقافي والاجتماعي في تونس، وتعبير عن العلاقة بين الشخصيات والأماكن التي تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل مصير الإنسان.