د علي حرب
صدمة الوقائع
بعد صدور كتابي ما بعد الحقيقة (شباط/ فبراير 2018)، يسألني صديقي المتابع: أما زلت تكتب عن الحقيقة؟ ألم تصب بالقتل واليأس في وسط هذا الطوفان من التفاق والتدليس؟ في هذه المقالة محاولة للإجابة عن السؤال وأبدأها بالقول: لا مهرب من الحقيقة التي هي بالنسبة إلى مسألة تكتسب أهمية فائقة من غير وجه.
الأول أن أول كتاب لي كان عنوانه التأويل والحقيقة (1985)، والفضول، بل الشغف يدفعني إلى الاهتمام. بما يكتب عن الموضوع، وخصوصاً أن الفلاسفة يقدمون أنفسهم بوصفهم عشاق الحقيقة وشهودها. الثاني أنها قضية تهم الفلاسفة والعلماء. كما تهم عموم الناس يصرف النظر عن مهنهم وأعمالهم، إذ ما من عاقل أو فاعل لا ينشغل بمعرفة الحقيقة أو الدفاع عنها بهذا المعنى نحن إزاء قضية هي ثابت من ثوابت التفكير والتقدير والتدبير. ولكن علاقتنا بها ليست ثابتة بل هي متغيرة بتغير القراءات والتأويلات أو باختلاف المناهج والاختصاصات. 3 الثالث كوني تطرقت إلى مفهوم هما بعد الحقيقة، بصورة مبكرة. في كتابي نقد الحقيققه (1993)، وإن لم استخدم المصطلح يومئذ. وقد أتى ذلك في سياق نقدي للمشروع الحداثي التنويري، بمختلف عناوينه حول العقلانية والتقدم أو الحرية والإنسانية، فضلاً عن الهوية والحقيقة.
في ضوء هذا التوضيح، يعتبر مصطلح ما بعد الحقيقة بمثابة ثمرة لموجة ما بعد الحداثة، بفتوحاتها الفكرية وثوراتها المعرفية، وهي موجة أسفرت عن تجديد المفاهيم والمناهج، وأولها مفهوم النقد بالذات، وكما مارسته بوصفه انتقالاً من نقد العقل الى نقد النص. وقد على هذا الانتقال تجاوز النقد بوصفه تحليلاً لملكات وقوى ذهنية مجردة، تقوم في عقل محض، أو تصدر عن ذات متعالية تفكر بمعزل عن لغتها ودماغها وجسدها إلى الاشتغال بنقد ما هو في المتناول أي ما نقرأه أو نسمعه أو تختبره وتتداوله من نصوص وخطابات الاستثمار إمكاناتها وتسليط الضوء على مآزقها.
الدقر في طليق من طياته أو تفكيك آلتو من آليات تشكله. بهذا المعنى يتجاوز النقد المطروع والمقول والمعلن في النص، نحو ما يحجبه ويتأسس عليه أو ما يخلقه وتي به بحث نقرأ فيه ما لم يقرأ من قبل، أو ما لم يرد على ذهن مؤلفه باستنطاقه عما سكت عنه أو الحقيقة بالذات بكشر منظومة فكرية تعامل أصحابها مع
لا توجد مكتسبات نهائية في ما يخص الحقوق والحريات، فالهوى والتعصب والحجب والجهل والكذب هي الأصل. أما التعقل والروية ومحبة الحقيقة والعدالة، فهي ليست قطرة متأصلة في كينونتنا، كما نعي، وإنما هي صناعة تحتاج إلى مراس ودربة وترويض دائم للأهواء
الوجه الآخر لهذا النقد، هو تفتر مفهوم المسألة بمفردات الماهية والتعالى والنبات والمطابقة واليقين، وسواها من المقولات التي صنعت إخفاق المشروع الحالي للتعامل معها بمفردات الخلق والتحويل أو التركيب والبناء أو اللعب والرهان. ل الى العمية أن حياة المرء هي لعبة، بقدر ما هي مواجهة وتحد أو صراع ومعترك قد يريح الواحد أو يخسر الا انا ولذلك يتوقف على قدرته على إتقان قواعد اللعب، وعلى خلق الممكنات التي تتيح له تحسين الأداء أو تركيب حلول للأزمات. في ضوء هذا ا التغير الذي . أفق عقلي إلى ا آخر، ما عاد مجدياً استعادة عناوين المشروع الحداثي انتقلنا معه من بصفتها الأولى، وكما فهمها أو ترجمها أهل الأنوار. من يفعل ذلك يشتغل بعدة مستهلكة فقدت قدرتها على الفهم والتشخيص، كما على الجذب والتحريك، وباتت بحاجة إلى إعادة البناء على سبيل التعديل والتطوير أو التحديث والتفعيل.
الجهل المركب
لا شك أن هذا النقد يطال المثقفين العرب، من أصحاب المشروعات الإيديولوجية والسياسية، وهو يطالهم بصورة مضاعفة:
أولاً، لأنهم تعاملوا مع عناوين الحداثة بصورة تقليدية، لاهوتية، بوصفها نظريات علمية أو حقائق نهائية، فيما هي مقولات أو شعارات تحتاج الى إعادة الابتكار بانتقالها من مجتمع الى آخر أو من عصر إلى عصر.
هذا التعامل مع الحداثة بعقلية التقديس، هو الذي أدى إلى إخفاق المشروعات التي طرحتها النخب الثقافية التغيير المجتمعات تحت لافتة النهوض والتحرر والتقدم فما حصل كان على العكس: التغير نحو الأسوأ، كما ال رأينا في غير بلد عربي مزقته الحروب الأهلية. لقد سعينا الى التحديث بالخروج من فلك الاستغلال الديني لن فإذا بهم يعودون بالدين إلى حال الإظلام وحسبنا أننا تحرّرنا من هَيْمَنَةِ القوى الكبرى، فإذا بالاستعمار يعود عودته المدمرة ثانياً: ثقة سبب آخر لهذه العودة البربرية إلى الوراء، هو أن ما طرحه المثقفون كان يصدر عن رؤية سادة طوباوية تنم عن الجهل المركب بالواقع وبالإنسان، وبمباني الأفكار ومآلات الشعارات، سواء تعلق الأمر الرئيسي من بالاشتراكية أم بالديموقراطية، بالعروبة أم بالإسلام.
وأضرب على ذلك مثالين:
مثال أول كنا في نهاية الستينيات من القرن المنصرم، حيث ازدهر الفكر الماركسي في تلك الحقبة، نظن أن الدين قد أصبح وراءنا، فإذا بنا بعد عقدين نجد رجال الدين يتصدرون الواجهة، ويسبقوننا للقبض على السلعة الإقامة حكوماتهم الاستبدادية الفاشلة، وهم يقودون الجماهير التي ادعينا الدفاع عن مصالحها.
المثال الثاني قدمته الانتفاضات العربية التي اندلعت في العام 2011، في غير بلد المسقط بعض الطفاة من الحكام. هذه الأحداث فاجأت المثقف الثوري اليساري والقومي، كما فاجأت الداعية الإسلامي، ولكنه كان الأسرع لركوب موجتها واستغلالها. وكما فوجىء المثقفون بالطلاق الثورات، فقد فوجئوا أيضاً بمساراتها
ومآلاتها، فلم يكن أحد يتوقع أو يتصور ما حدث لا في البداية ولا في النهاية. وأياً يكن، فنقدي للمثقف العربي، هو وجه أو فرع من نقدي لمرجعيته الغربية، كما يمثلها كبار المثقفين، وها هو واحد من أبرزهم ريجيس دوبريه يعترف بفشله في كتابه الذي هو عبارة عن رسالة موجهة إلى ابنه، إذ هو لم يجد عنواناً له سوى هذا العنوان الكاشف الفاضح بيان الإفلاس والإفلاس يعني، إذا أحسنا القراءة، أن علاقتنا بأفكارنا، غرشين وعرباً، في ما يخص شعارات الاشتراكية والحرية والتقدم والحقيقة والهوية والعروبة. لم تكن حية، خصبة، بل هشة، واهية منسوجة من الأوهام والتهويمات التي استوطنت العقول لتحصد كل هذه الخيبات والتراجعات.
الوقائع البديلة
بدأت مقالتي بأسئلة الحقيقة، وأعود الى ما بدأت به الأسأل: ما الذي يقدمه كتاب «ما بعد الحقيقة، من إضافة على المشهد الفكري العربي الراهن؟
جوابي أن العمل الفكري الفلسفي، الذي يتمتع بالأصالة والابتكار والجدة في الطرح والمقاربة أو المعالجة، إنما يشكل إضافة، ليس في النطاق العربي فقط، بل على المستوى العالمي. يصرف النظر عن المعطيات التي يشتغل عليها أو القضايا التي يتناولها، وسواء كانت عربية أم غربية دينية أم فلسفية قديمة أم حديثة، والأساس في ذلك أن الخطاب الفلسفي هو عابر للغات والثقافات بتراكيبه المفهومية الخارقة وصيفه العقلانية التنويرية التي تخاطب المرء يصرف النظر عن هويته وانتمائه.
من هنا تحاشيت. ومنذ بداية نشاطي المهني الوقوع في أفخاخ الهوية. لم أحصر همي بالفكر العربي أو بالتراث الإسلامي. لم أفكر عربياً أو إسلامياً، بل تصرفت بوصفي عاملاً في الحقل الفلسفي الذي لا هوية له، تماماً كما يفكر ويعمل المشتغلون في هذا الحقل من فلاسفة العالم الذين ينتجون أفكاراً تخلق مساحتها التداولية على ساحة الفكر العالمي.
من هذا المنطلق، «الكوسموبوليتي». يندرج انخراطي في المناقشات العالمية الدائرة حول مختلف المشكلات الوجودية والقضايا الفكرية. هذا ما فعلته منذ أن تصدرت قضية «الوقائع البديلة المشهد، بعد إطلاق فريق الرئيس الأميركي المصطلح في أثناء حملته الانتخابية (2016). هذا المصطلح الجديد بما يعنيه من إنكار للوقائع المثبتة بالتجربة والحجة لاختلاق أخرى تحل محلها، قد أعاد إلى الأذهان مصطلح ما بعد الحقيقة»، الذي بات محوراً لقراءات ومناقشات لم تتوقف حول منشئه ومدلولاته ومفاعيله. وكانت أول إسهامة لي في هذا الخصوص، هي كتابة مقالة حول هذا المصطلح الفلسفي الذي أيقظ العقول من سباتها الأصولي والدوغمائي (جريدة الحياة / كانون الثاني / يناير 2017: ثم تلت هذه المقالة مقالات أخرى و دراساتٌ جَمَعْتُها في كتاب «ما بعد الحقيقة».
بالطبع هناك مئات الدراسات والمقالات صدرت في الصحف والمجلات الغربية، وبالأخص الفرنسية، حول مصطلح ها بعد الحقيققه ولكن كتابي هو أول عمل يصدر في هذا الخصوص، ليس على المستوى العربي فقط، حيث الكتابات هي نادرة بل على المستوى العالمي، وليس هذا اعتداداً أو تباهياً، فأنا أقوم بعملي، مع أملي أن تترجم أعمالي إلى القارئ الغربي.
اجتراح الإمكان
ما أحاوله في كتابي هو استعادة نقدي للحقيقة كما مارسته منذ ربع قرن. لأعيد ضوعه في ضوء المستجدات الراهنة، والنقد ليس معاداة للعقل أو وقوعاً في اللايقين والعدمية، كما يخشى أصوليو التنوير، وهو ليس في المقابل نفياً للوقائع كي تصح الشعارات، كما يفعل عشاق الحقيقة، والأصولية مالها العدمية، أيا كان الشعار لأن الأصولي لا يحسن سوى انتهاك دعوته أو تخريب قضاياهم.
النقد هو فتح مفهوم الحقيقة على إمكاناته، بوضع خطابه موضع التشريح والتفكيك للكشف عما استبعده
أو حجبه أو تناساه أو استعصى عليه دركه وفهمه، أي كل ما أسهم في تلغيمه وانسداد أفقه من البداهات الخادعة والمسبقات المعيقة أو الأنساق المغلقة والتصنيفات الخانقة. وخطاب الحقيقة، إنما يتناسى حقيقته، أي نفسه ومعناه أو لغته ومنطقه أو سلطته وألاعيبه، بقدر ما يولد نقائضه أو يتستر على فضائحه أو يؤول إلى كوارثه. أليس هذا ما يفسر كيف أن كبار المفكرين يصلون إلى ما لم يفكروا فيه أو إلى عكس ما سعوا إليه ومن حيث لا يحتسبون. من هنا لا نص يقبض على حقيقة الواقع.
لأن كل نص في الحقيقة يشكل هو نفسه واقعة تغير علاقتنا بالحقيقة لتسهم في تغيير مشهد الواقع وخريطة المعرفة وعلى نحو غير مسبوق ولا متوقع.
هذا النقد يعيد الاعتبار للموقف السفسطائي في مواجهة أفلاطون، فمؤسس الأكاديمية وفيلسوف الجمهورية لا يملك الحقيقة أكثر من سواء وهذا شأن أرسطو من حيث علاقته بأفلاطون أو ماركس من حيث علاقته يهيغل، وهذا شأن كل واحد من كل واحد لا أحد يحتكر الحقيقة أو يحب الحقيقة أكثر من سواه ولا قول هو أصدق أو أكثر حقيقية من سواه، لأن كل قول يحجب بقدر ما يكشف أو يصمت بقدر ما يُنبئ، ولأن الخطاب هو أقل مما يدعيه بقدر ما هو أوسع وأغنى مما يطرحه.
وهذا شأن الخطاب بعامة، إنه لا يختزل إلى معلوماته وأطروحاته وبراهينه، وإنما هو إمكاناته المفتوحة بقدر ما هو أبعاده المتعددة، وهو مفاهيمه الكثيفة والملتبسة بقدر ما هو طبقاته المتراكمة والمتراكبة، وتلك هي إشكاليته من هنا قولي إن الحقيقة هي أقل حقيقيقه مما يحسب ملاكها، وإن كل فيلسوف هو لاعب خالق بمعنى له – يصنع حقيقته فيما يدعي قول الحقيقة، ويخلق بأعماله التي ليست هي نسخة عن الواقع أو صورة له وقائع فكرية خارقة تفرض نفسها وتترك بصمتها في تاريخ الفلسفة والثقافة بعامة.
ومن المستغرب أن يكتب أحدنا عن فلاسفة البنيوية والتفكيك والاختلاف، ثم يُقدم ما يكتبه بوصفه الدليل السليم للفهم، هكذا بعقلية المرشد الديني، بذلك يشهد على جهله بما قرأه من الفلسفات التي تغيرت معها
نظرتنا إلى كل المفاهيم المتعلقة بمفردات وجودنا، وعلى رأسها بالذات مصطلح المفهوم الذي خضع لإعادة التفكير والفهم فهو لم يعد مرأة شفافة أو ماهية ثابتة، وإنما هو واقعة خطابية بقدر ما هو نص له كثافته والتباسه وله بطانته ورواسيه كما له ظلاله وإيحاءاته من هنا هو محل لتباين القراءات والتأويلات والشاهد يقدمه مصطلح المتعالي الذي عجز الشراع عجز واضعه نفسه الفيلسوف كانط عن الوصول إلى يقين جازم بشأن مفهومه، وهذا مصدر غناه وقوته هشاشة الحقيقة وكشر الاحتكار للحقيقة، في أي مجال يجعل منها قضية هشة مزدوجة، مرجأة هي محل التباس أو اشتباه ولا مجال للقطع فيها على نحو نهائي، هذا على المستوى المعرفي.
أما على المستوى الخلقي، فالمرء يمارس الكذب أكثر مما يحب الحقيقة. ربما لأن قول الحقيقة هو مكلف أو مسيء أو مؤذ، وقد يكون قاتلاً سواء تعلق القول بطفل صغير أم بحاكم غشوم. من هنا يلجأ الكثيرون إلى المصانعة والمداورة أو إلى الالتفاف والتستر في التعامل مع الوقائع.
أراني أستشهد هذا بالفيلسوف الأسترالي كليف هاملتون، الذي يعتبر أن الناس بعامة لا تحب أن تسمع قول الحقيقة، في ما يخص التدهور المربع والخطير في المناخ، وكما يتمثل في ارتفاع حرارة الأرض، من جراء أعمال الإنسان وصنائعه لأن الاعتراف بالواقع له تكلفته وثمنه أن يُغيّر الواحد نمط حياته بالتراجع عن مكتسبات الحداثة والتقدم والرفاه (جريدة لوموند (2018/11/21). وهذه المهمة، إذا شئنا حمل المسؤولية، صعبة، بل مستحيلة حتى عند الذين يهاجمون جماعة «الوقائع البديلة» على إنكارهم الحقائق العلمية، لأنها تحتاج إلى زهاد. وتلك هي المعضلة.
هكذا فالأخطاء والأوهام والأكاذيب تطوق الحقيقة من الجهتين. إذ هي تسبقها أو تليها، وإلا كيف تفسر أنه بعد كل هذه المواثيق والدفاعات عن الحقيقة، تفاجئنا نماذج العنصري والفاشي والمشعوذ والدجال، ولا أنسى الداعية الذي هو الأكثر تخبطاً وتورطاً وتواطؤاً. إذ هو لا يحسين سوى صنع النماذج التي يدعي محاربتها.
من هنا فإن عمل الفكر يقوم على كشف ما تنطوي عليه الخطابات والنظريات والمؤسسات من أشكال الحجب والزيف والإقصاء، بقدر ما يقوم على تجديد العدة الفكرية بتحديث أظر النظر ولغة الفهم أو شبكات القراءة وقواعد المداولة.
الباحث والخالق
هذا ما يفيده مصطلح «ما بعد الحقيقة»: لا توجد حقائق مطلقة أو نهائية يمكن أن نقبض عليها وتتماهي بها. سواء اختص الأمر بالواقع الطبيعي أم بالعالم الإنساني بنص فلسفي أو بمعتقد ديني. ما يوجد هو حقائق مفردة، يتشكل منها العالم الذي لا ينفك يحدث ويتحوّل من الانفجار الكبير الى انفجارات
الثورة الرقمية. وما يوسع الإنسان فعله هو قراءة ما يحدث، رهانه في ذلك أن يتمكن من فهم الوقائع والتأثير في المجريات
تغير علاقتنا بالحقيقة بقدر ما تفتح إمكانات جديدة وغير مسبوقة للوجود والحياة، للفكر والعمل ” بأفكاره وأعماله، بمشروعاته وصنائعه بتدابيره وإجراءاته وكل عمل خارق في أي مجال يشكل واقعة المدير بهذا المعنى تحليل الطبقة بوصفها ما تقدر على خلقه وتحويله، أو صنعه وتركيبه أو إنجازه وبناته سواء تحلى ذلك في تركيب لغة أم شيعرة في ابتداع فكرة أم قيمة في ضوع قاعدة أم بناء مؤسسة.
المسألة في من هنا نحن تتجاوز الآن ثنائية الصبح والخطأ أو الصدق والكذب على المستوى الفلسفي ليست ال الثلاثين بالحقائق أو اختلاقها من جانب الساسة ورجال المال والإعلام ولا هي في المقابل امتلاك الحقيقة بلغة القبض والقطع، كما تعتقد فلاسفة الماجنة القابلة والهوية الصافية أنها مسألة القدرة على خلق الوقائع التي تندرج في سجل الحقيقة بقدر ما تشكل إضافة على رصيد المعرفة، أيا كان حقل الخلق والإنتاج . وعملية الحلق لا تتوقف المجابهة ما تفاجئنا به الوقائع. أو ما تفاجئ به نحن أنفسنا بهذا المعنى نحن ننتقل من نموذج الباحث عن الحقيقة إلى نموذج الخالق للوقائع، ومن فلسفة الماهية الثابتة إلى منطق العلاقات المتحولة، ومن الشروط المسبقة إلى حرق الشروط وتجاوز الحدود، لتغيير قواعد اللعب على المسرح، وعلى نحو يحول الممتنع إلى ممكن.
المثقف ليس منقذاً
ما يمكن أن تخلص إليه هو أن لا مهرب من إعادة النظر في ما كنا نفكر فيه، باقتحام المناطق الخارجة عن سيطرة العقل وقبضة المنطق لتفسير ما تواجهه من العجز والإخفاق والإفلاس على غير مستوى وصعيد. فبعد كل هذه التحديات الجسيمة والأزمات العاصفة التي تواجهها المجتمعات البشرية، وبعد كل هذه التراجعات التي فاجأت كبار المثقفين على المستوى العالمي، وكما تمثل ذلك في صعود الأصوليات وظهور الشعبويات. يقد بوسع فيلسوف منظر أو داعية مبشر أن يدعي امتلاك الحلول لتغيير العالم أو الإنقاذ البشرية.
لم لقد ولى ذلك الزمن حيث كان المثقف يقدم نفسه، بوصفه المنقذ أو المخلص للأمة أو للبشرية جمعاء من آفاتها ومأزقها، كما صنعها منطق الاستثار والاحتكار أو الإقصاء والصدام، ولو توقفنا عند الفلسفة. التي يشتغل أهلها بمعايير الحق والخير والجمال، نجد أن الفلاسفة لم يجعلوا الحياة أهنا والعالم أفضل؛ بل إن العالم سار دوماً بعكس تصوراتهم ومشروعاتهم، وليس حتماً أن الفيلسوف يستخدم عقله أحسن مما يفعل
مدير البنك أو صاحب الشركة أو المتجر. وها هم الأوروبيون يستفيقون الآن على وقع الحرب في أوكرانيا، من سباتهم الأنتربولوجي والإيديولوجي، وإذا كان لهذه الحرب من دلالة بعد هذه العقود من التنوير الفلسفي والتعليم الخلقي والإرشاد الديني، فهي تعني أن الأهواء والأحقاد والنزوات هي أقوى بكثير من الفلسفات والنبوات.
الأحسن القراءة: فالإنسان هو ذات عاقلة ومفكرة، ولكنه قبل ذلك هو ذات راغبة والرغبات مخاتلة مخادعة. تلعب بنا ومن وراءنا، ومن حيث لا تحتسب، ما يعني هشاشة ما يُعلي الإنسان من شأنه من قيم العدالة والمساواة أو الحرية والسلام. وتلك هي مشكلة الإنسان، على اختلاف انتماءاته وقذاهيه ومعسكراته، كما صنعتها مفردات القداسة والعظمة والغطرسة والنخبوية والنجومية والبهرجة…..
لذا، ما ينتظر منا. نحن معشر العاملين في حقول الفلسفة وعلوم الإنسان أن تكسر نرجسيتنا، ونكف عن ممارسة الأستذة والوصاية على غيرنا. فنحن لا تحتكر قول الحقيقة ولا تمثل نور العقل وحدنا من دون سوانا. ومعنى الاعتراف أن تعيد النظر في مهمتنا ودورنا كفاعلين اجتماعيين. في عالم لا ينفك عن التغير في بنيته و خارطته كما في أدواته وأبجدياته، وفي مفاهيمه وقواعده كما في قواه واللاعبين على مسرحه.
المجتمع التداولي
نحن تندرج اليوم في واقع عالمي تغيرت معه أدوات فهمه وطرق تغييره، مع الدخول في عصر العولمة والشبكة
أو المنصة والتغريدة، حيث تراجعت العلاقات العامودية المركزية لمصلحة العلاقات الأفقية والتواصلية، ومن أبرز
وجوه هذا التغير أن أعمال النهوض والإصلاح أو النمو والتطور. لم تعد تتوقف على حاكم متمركز على ذاته أو على نخبة غارقة في أوهامها. ثمة مجتمع جديد آخذ في التشكل تنكسر معه ثنائية النخبة والجمهور، هو المجتمع التداولي بشبكة تأثيراته المتبادلة وصيرورة تحولاته المتواصلة، ما يعني أن المجتمع هو الذي يُغيّر نفسه في مختلف حقوله وقطاعاته وقواه، عندما يتحوّل إلى ورشة دائمة من الفكر الحي والعمل المثمر، في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، بحيث يتاح لكل فرد أن يكون منتجاً في حقل عمله، بقدر ما يكون لاعباً فاعلاً يشارك في صناعة ذاته وفي بناء مجتمعه أو تشكيل عالمه
وإذا كان للفلاسفة من دور. فهو أن يُسهموا بعدتهم المفهومية وأدواتهم المنهجية ومواهبهم النظرية. في تشخيص الواقع وتحليل الظاهرات أو تفكيك المشكلات. أما تركيب الحلول، فإنه صناعة مشتركة ينخرط فيها كل الفاعلين الاجتماعتين كل انطلاقاً من حقل اختصاصه وبحسب خبرته ومهاراته.
السذاجة والشعوذة
وإنه لمن قبيل السذاجة أو التشبيح أن يُقال لنا إن الفلسفة هي الحل الوحيد للانسداد التاريخي والاستعصاء الحضاري وأصحاب هذا الرأي يدعون إلى محاربة التيارات الأصولية، فيما الفكر الأحادي الأصولي يخترقهم من حيث لا يحتسبون. بذلك يُقدمون الشاهد على أن الخطاب يكذب صاحبه أو يفضحه. كذلك من السذاجة، إن لم نقل من الشعوذة، أن ندعو إلى اتفاق حول مفهوم العقل لإنقاذ البشرية فأصحاب هذا الرأي يتعاملون مع العقل كأنه صفقة تجارية، أو قرار تصدره إحدى المحاكم، أو أرض يمكن الاتفاق على ترسیم حدودها. هذا فيما العقل، بحسب الاستراتيجية النقدية التنويرية الراهنة ليس قسطاساً يفصل على نحو قاطع بين الصح والخطأ، وإنما هو كأي نشاط بشري، له وجهه الآخر خرافاته وأوهامه عثماته وغياهبه، آلياته اللامعقولة ومستقاته الخارجة عن دائرة النظر والتفكر.
والمثال على ذلك تقدمه الفيزياء، حيث نجد أن كبار العلماء يعترفون بأن الوصول إلى نظرية شاملة أو إلى يقين جازم بشأن ماهية الواقع أمر بعيد المنال. وإذا كان العقل يعجز عن البن والقطع في ما يخص الظواهر الطبيعية والموجودات العينية، فإن البك يبدو أعسر وأبعد مثالاً، في ما يخص مصطلح العقل نفسه.
نحن إزاء مفردة تحيل إلى شيء رمزي اعتباري أو غيبي ومتعال. لذا لا مجال لإنجاز اتفاق بشأنه. ههنا ثقة فجور لا أردم بين المقولات والموجودات كما بين الكلمات والأشياء أساسها الا فكر يتساوى مع نفسه، ولا ذان تتطابق مع مرجعها أو تتماهي مع ذاتها. نتاجاته وكل قراءة خصية وفعالة تفرض نفسها. وتشكل واقعة مضافة على سجل الحقيقة، بقدر ما بهذا المعنى فمصطلح العقل هو مجرد عبارة، وما بوسعنا القيام به ليس القبض على حقيقته، بل أن نقا
تشير إضافة قيمة على رصيد المعرفة. تمكن للبشر أن يتفقوا على إصدار قانون أو وضع قاعدة أو ابتكار وسيلة أو اتخاذ إجراء، لتدير شؤونهم وتنظيم العلاقات في ما بينهم ولكن من المتعذر على العقلاء أن يصلوا إلى اتفاق بشأن العقل. هذا ما يشهد به تان العلاقالة وتاريخ العلم، حيث لا اتفاق، لا بشأن الحقيقة والواقع ، ولا بشأن العقل والفلسفة، ومن جنس الجوال أن يكون الأمر كذلك، لأن أحكام البث والقطع أو الاتفاق والإجماع، بخاصة في ميادين الفكر وحقول الثقافة مالها إنتاج قطعات بشرية وقيام أنظمة شمولية أو منظمات أصولية وحركات شعبوية.
لنُغير الفلسفة
ما يمكن أن يتفق عليه الفلاسفة والعلماء، هو أن ما ينجزونه من الأعمال، عبر نصوصهم، هو مجرد رهان على الفهم والتشخيص، أي مجرد وجهات نظر هي قراءات مختلفة للمجريات، أو روايات متعددة للأحداث، نظم للمداولات العلنية والمناقشات العمومية والمحاججات العقلية، نعم، إن للعقل أدلته وبراهينه، ولكن له أيضا
قصوره ومأزقه أو صمته وصممه من هنا فإن التنوير العقلي هو مهمة دائمة لا تتوقف. هنا أيضاً تستغرب كل الاستغراب أن مشتغلين بالفلسفة لهم اجتهاداتهم المعتبرة في هذا المجال، يحدثونا عن الوجود اللبناني والعربي الأصم بمناسبة صدور ما كتبوه عن الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إنهم يشطبون بجرة قلمهم ما أنتجه مفكرون لبنانيون وعرب، مشرقاً ومغرباً، كتبوا نصوصاً فلسفية باللغة العربية خلقت مساحتها التداولية على ساحة الفكر العربي والعالمي، وهم يمارسون بذلك نوعاً من البهورة الإعلامية هي مثال على ما يمكن تسميته صمم العقل، ليقدموا المثال تلو المثال على أن الخطاب قد يناقض صاحبه، ومن حيث لا يعقل، ولو كان من دعاة العقل.
غاية القول إذا شئنا استخلاص الدرس من هذا النقد هو أن نعترف بالواقع الإنساني، بدلاً من بتهويماتنا المثالية والطوباوية: لا توجد مكتسبات نهائية في ما يخص الحقوق والحريات، فالهوى والتعصب والحجب والجهل والكذب هي الأصل. أما التعقل والروية ومحبة الحقيقة والعدالة، فهي ليست قطرة متأصلة في كينونتنا، كما نعي، وإنما هي صناعة تحتاج إلى مراس ودربة وترويض دائم للأهواء والنزول كما تحتاج في ما يعنينا كفلاسفة، إلى ممارسة التقى الفكري والتواضع الوجودي، عبر نقد الذات ومراجعة الحسابات، بحيث تتوقف عن تقديم حلول تفوق طاقة الفلسفة وتكون أكبر منا بكثير، لقد تغير العالم، والمنظر أن تمارس التفلسف بأشكال مختلفة، وأساليب حية وراهنة، بقدر ما هي ميدانية وتداولية.