في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلنت منصة “نتفليكس” إنتاج فيلم عن حياة القائد القرطاجي العظيم حنبعل برقا، الذي قاد جيوش قرطاج خلال الحرب البونيقية الثانية (218-201 ق.م) ضد الإمبراطورية الرومانية. المفاجأة جاءت في اختيار الممثل الأمريكي دينزل واشنطن لتجسيد شخصية القائد الذي خلّدت عبقريته العسكرية سرديات التاريخ.
الجدل التونسي حول الهوية التاريخية
الإعلان عن هذا الفيلم أثار عاصفة من النقاشات داخل تونس، أرض الإمبراطورية القرطاجية القديمة. فقد تمحور الجدل حول عدة نقاط، أبرزها اختيار ممثل أمريكي ذو بشرة داكنة لتجسيد شخصية حنبعل الذي وصفته الأدبيات التاريخية بملامح أقرب لسكان شمال إفريقيا الحاليين. فهل اختيار دينزل واشنطن يعكس تزييفاً للتاريخ أم أنه مجرد رؤية فنية؟
تماثيل وقطع أثرية تمثل حنبعل – ومن بينها تمثال نصفي شهير نُحت من قبل فنان معاصر له – تُظهر ملامح لا تنسجم مع الملامح الإفريقية جنوب الصحراء، بل أقرب إلى سكان جنوب البحر المتوسط. رغم ذلك، لا يمكن وصف الاعتراضات على اختيار دينزل واشنطن بالعنصرية؛ فالقضية أعمق من ذلك، إذ تتعلق بضرورة احترام السرديات التاريخية الحقيقية وعدم التلاعب بها تحت مظلة الفن.
نتفليكس والأجندة الثقافية
لا يعد هذا العمل الأول الذي تتهم فيه “نتفليكس” بتجاهل الحقائق التاريخية. فيلمها الوثائقي عن كليوباترا أثار انتقادات مماثلة، حيث صورت الملكة الفرعونية بملامح إفريقية داكنة، ما أثار استياءً واسعاً في مصر، خاصة أن العمل وثائقي، مما يفترض أن يستند إلى حقائق علمية دقيقة.
وسط هذا الجدل، يبقى القائد حنبعل برقا شخصية تاريخية استثنائية حُفرت في ذاكرة الإنسانية. قهر الرومان في معارك شهيرة مثل كاناي، وقطع جبال الألب بجيشه في واحدة من أكثر الحملات العسكرية جرأة في التاريخ. وُصف بأنه أسوأ كوابيس روما،
هنا يُثار التساؤل: هل تقود “نتفليكس” توجهاً ثقافياً عبر الترويج لأيديولوجيات مثل حركة “المركزية الإفريقية” (Afrocentrism)؟ هذه الحركة، التي تأسست على يد الناشط موليفي أسانتي في الثمانينيات، تهدف إلى إبراز الثقافة والتاريخ الإفريقي في مواجهة السرديات الغربية المهيمنة. رغم نبل الهدف، فإن بعض أنصارها يقدمون تفسيرات مبالغ فيها، مثل الزعم بأن الحضارة المصرية القديمة كانت سوداء إفريقية بحتة، وهو ما يفتقر إلى الدعم العلمي.
حنبعل برقا: سردية العدو وعبقرية القائد
وسط هذا الجدل، يبقى القائد حنبعل برقا شخصية تاريخية استثنائية حُفرت في ذاكرة الإنسانية. قهر الرومان في معارك شهيرة مثل كاناي، وقطع جبال الألب بجيشه في واحدة من أكثر الحملات العسكرية جرأة في التاريخ. وُصف بأنه أسوأ كوابيس روما، حيث حاصرها ثلاث سنوات، إلى أن لجأت روما إلى استنساخ استراتيجياته لهزيمته في معركة زاما.
ورغم هزيمته النهائية، ظل حنبعل أيقونة في الفكر العسكري، وخططه تُدرّس في أرقى الأكاديميات العسكرية حتى اليوم. كان مصيره مأساوياً، إذ فضل الانتحار بالسم على أن يُؤسر ويُجر مكبلاً في سلاسل إلى روما.
ربما يكمن السبب الأعمق لهذا النقاش في الفراغ الثقافي الذي تعاني منه تونس. فغياب صناعة سينمائية قوية تسلط الضوء على رموزها التاريخية يجعلها عُرضة لإعادة تفسير تاريخها من قبل الآخرين. إلى حين تحقيق صناعة سينمائية تونسية قادرة على تقديم السردية من وجهة نظر محلية، ستبقى هذه الشخصيات التاريخية مجالاً لتأويلات خارجية قد تعكس أجندات سياسية أو ثقافية مختلفة.
حنبعل، ذاكرة قرطاج وحاضر تونس
رغم الانتقادات، فإن هذا الفيلم قد يحمل فرصاً إيجابية لتونس. فإحياء قصة حنبعل برقا، حتى لو برؤية سينمائية مختلفة، يعيد تسليط الضوء على التراث التونسي ويدفع بالسياحة الثقافية نحو الواجهة.
لكن السؤال الذي يظل قائماً: هل تُقدم قصة حنبعل كما عاشها وكما عرفها التاريخ، أم أننا أمام سردية جديدة قد تُفقد هذه الشخصية العالمية عمقها التاريخي؟
مهما كان الجواب، يبقى حنبعل رمزاً لتاريخ غني وقائدًا لن يُمحى اسمه، حتى لو كتبت سرديته بأقلام أعدائه.