كتاب “في العنصرية الثقافية” لعبد الكريم بدرخان لا ينتمي إلى الكتب التي نقرأها مروراً سريعاً، بل يستوقفنا أمام أعماق الفكرة التي يقدمها؛ العنصرية التي تتجسد في ممارسات ثقافية، تبدو أحياناً بريئة، لكنها تحمل في طياتها أبعاداً خطيرة تؤثر على العلاقات بين البشر والهويات. بدرخان يسافر بنا عبر محطات تاريخية وثقافية وسياسية، ليكشف عن أصول هذه العنصرية وكيف تطورت لتأخذ أشكالاً جديدة تتجاوز التمييز العرقي التقليدي.
العنصرية الثقافية: رحلة في التاريخ
منذ القدم، كانت الثقافات وسيلة لتصنيف الشعوب. بدرخان يسلط الضوء على مصطلح “البربرية” عند الإغريق والرومان، حيث لم يكن يعبر فقط عن الاختلاف اللغوي، بل كان يحمل في طياته حكماً ضمنياً بالتفوق الثقافي. ومع مرور الزمن، تضاعفت هذه الأحكام خلال العصور الوسطى وعصر الاستعمار، عندما باتت الثقافة غطاءً لتبرير السيطرة السياسية والاقتصادية. اليوم، كما يوضح الكاتب، نجد هذه العنصرية في ثنايا سياسات معاصرة تخفي نفسها تحت شعارات الحداثة والتنمية.
الأدب كمرآة للتمييز
الأدب دائماً ما كان انعكاساً للمجتمعات. بدرخان يأخذنا إلى نصوص من الأدب الكلاسيكي والحديث، حيث يتجلى تصوير “الآخر” على أنه متخلف ثقافياً مقارنة بالمستعمر “المتحضر”. هذه الصور النمطية، التي تجذرها الأدب أحياناً، ليست مجرد حكايات، بل أدوات لإدامة الإقصاء وتعزيز الهيمنة.
رغم كل هذا التفكيك النقدي، لا يترك القارئ في دوامة من الإحباط. بل يدعو إلى العودة إلى حوار صادق بين الثقافات، بعيداً عن الأيديولوجيات التي تُقصي الآخر. يرى أن الاعتراف بالتنوع الثقافي كقيمة إنسانية هو مفتاح الخروج من هذه المعضلة.
يمضي الكتاب إلى تحليل أكثر معاصرة، حيث يبرز كيف أصبحت الثقافة أداة سياسية تُستخدم لتبرير الحروب والصراعات. بدرخان يربط بين الحرب الروسية-الأوكرانية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مشيراً إلى أن الثقافة تُستخدم كدرع أيديولوجي يشرعن الاحتلال أو العدوان. هذا الاستخدام السياسي للثقافة ليس جديداً، لكنه اليوم أكثر حدة ووضوحاً.
الجوهرانية الثقافية: قيد فكري
أحد أكثر المحاور تأثيراً في الكتاب هو تناول مفهوم “الجوهرانية الثقافية”، الذي يختزل هويات الشعوب في صفات جامدة وغير قابلة للتغير. بدرخان يبرز خطورة هذه الفكرة، فهي ليست فقط عائقاً أمام الحوار، لكنها تصنع حواجز وهمية تزيد من حدة التوتر بين الشعوب.
عبد الكريم بدرخان، رغم كل هذا التفكيك النقدي، لا يترك القارئ في دوامة من الإحباط. بل يدعو إلى العودة إلى حوار صادق بين الثقافات، بعيداً عن الأيديولوجيات التي تُقصي الآخر. يرى أن الاعتراف بالتنوع الثقافي كقيمة إنسانية هو مفتاح الخروج من هذه المعضلة.
لماذا نقرأ هذا الكتاب؟
القوة في هذا الكتاب تكمن في جمعه بين التحليل التاريخي والطرح الواقعي. بدرخان لا يقدم مجرد نقد نظري؛ بل يُرفق أفكاره بأمثلة حية ومعاصرة تجعل الكتاب وثيق الصلة بواقعنا اليوم. كما أن أسلوبه النقدي يكشف زيف التصورات العنصرية التي تحاول الاختباء وراء ستار الثقافة.
رغم عمق الكتاب، قد يُلاحظ القارئ تركيزاً كبيراً على السياقات العالمية، في حين كان من الممكن تقديم أمثلة أكثر تفصيلاً من السياقات المحلية أو الإقليمية. إضافة إلى ذلك، تبدو الحلول التي يقترحها الكاتب في بعض الأحيان مثالية أكثر من كونها عملية.
“في العنصرية الثقافية” ليس مجرد كتاب، بل هو مرآة تعكس التحديات الفكرية والإنسانية التي تواجهنا. بدرخان يدعونا إلى كسر قيود التصورات النمطية، والبحث عن مساحات مشتركة بين الثقافات تتيح لنا العيش بسلام واحترام. إن أردنا مواجهة العنصرية الثقافية، فعلينا أولاً أن نتجرأ على مواجهتها داخل أنفسنا.