No Widgets found in the Sidebar
أي مستقبل للتراث؟ وماذا بعد أفريل؟

كل سنة، ومع حلول شهر أفريل، تنطلق في تونس فعاليات “شهر التراث”. تُزيَّن الشوارع بالملصقات، وتُفتَح المواقع الأثرية، وتُقام الندوات والمعارض وتُطلق الخطب الحماسية. لكن، وسط كل هذا الزخم الموسمي، يطرح سؤال نفسه بإلحاح: هل نحن بصدد تخليد التراث أم نُمارس طقسًا احتفاليًا يجمّل غياب السياسة الثقافية؟

كيف نفسر هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي الذي يُمجد الذاكرة الجمعية، والواقع الذي يشهد تهالك المواقع، وتهريب القطع، وبؤس التشريعات؟ لماذا تبدو مواقعنا التاريخية، من قرطاج إلى الجمّ، مثل عجوز تُعرض على خشبة المسرح مرة في السنة، ثم تُلقى في العتمة لبقية الفصول؟

هل سأل أحدهم كيف يشعر شباب حي الحفصية حين يمرّون يوميًا بجانب باب من أبواب المدينة العتيقة، منهار، مهمل، مسكون بالنسيان، بينما تقام في نفس الوقت ندوة في فندق خمسة نجوم عن “أهمية التراث في التنمية”؟

أي تراث نحتفل به؟ التراث الرسمي أم التراث المسكوت عنه؟

لماذا يتم التركيز في شهر التراث على المعالم المصنّفة و”المطابقة للمعايير”، بينما يُغيب تراث العمق الشعبي؟ أين الحكايات الشفوية؟ أين الأغاني الجبلية؟ أين ذاكرة النساء في الحقول، وذاكرة المقاومة المحلية ضد الاستعمار؟ هل التراث، في المخيال الرسمي، هو ما يُمكن تأطيره في ملصق، وتصويره بكاميرا التلفزيون، بينما يُقصى التراث الذي يُحرّض على طرح الأسئلة؟

أين وصلت خطة إعادة ترميم المواقع المهددة؟ كم عدد الخبراء المؤهلين العاملين في الترميم حاليًا؟ متى تم تحديث آخر نص قانوني ينظم حماية التراث؟ وهل توجد آلية رقابة تمنع البناء العشوائي في محيط المواقع الأثرية؟ لماذا لا يُعلن سنويًا عن “قائمة سوداء” للمواقع المهددة، أو “قائمة خضراء” لتلك التي تم إنقاذها؟ من يحاسب من؟ وهل من صوت جدي داخل البرلمان يطرح سؤال التراث كقضية سيادية لا مجرد قطاع فرعي تحت سلطة وزارة الثقافة؟

من له الحق في الوصول إلى التراث؟ لماذا ما تزال معظم المخطوطات في خزائن مغلقة، أو مهملة، أو منسية في المتاحف؟ لماذا لا توجد قاعدة بيانات وطنية رقمية مفتوحة للتراث؟ وهل يُعقل أن يكون من الأسهل البحث في متحف اللوفر عن قطع من تراثنا، أكثر من العثور عليها في موقع رسمي تونسي؟

هل يمكن الحديث عن اقتصاد ثقافي دون أن نحمي المعنى؟

في زمن السوق الحرة، يتم تسويق التراث كما تُسوّق العطور: شعار، صورة، وعبارة شاعرية. لكن من يُفكّر في المعنى؟ كيف يمكن تحويل التراث إلى مصدر دخل دون تحويله إلى سلعة جوفاء؟ هل نحن بصدد بناء “اقتصاد ثقافي”، أم بصدد تصدير “قشور التراث” للسياح مع إهمال الجذور؟ من يربح من هذا النوع من “التمكين الرمزي”؟ وهل تستفيد المجتمعات المحلية فعلاً، أم تبقى فقط الخلفية الصامتة لصورة تُباع في مطار قرطاج؟

السؤال الحقيقي لا يتعلق بما نفعله في شهر التراث، بل بما نُهمله في باقي أشهر السنة. فالحفاظ على التراث ليس فعلاً موسمياً، ولا مناسبة علاقات عامة، بل هو خيار حضاري وسياسي عميق. حماية التراث تتطلب قرارات لا تُرضي الجميع، تتطلب ميزانيات، قناعات، وقوانين صارمة.

فهل نملك في تونس اليوم الجرأة على اتخاذ تلك القرارات؟ أم أننا نفضّل أن نستمر في تزيين جُدران الذاكرة بالورود، بينما تتآكل الأرض من تحت أقدامنا؟