في ولاية نابل، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، تبرز مدينة كركوان باعتبارها واحدة من أقدم المستوطنات الفينيقية في شمال إفريقيا. هذا الموقع الأثري، الذي دخل قائمة التراث العالمي، يشهد على حضارة غنية تمتد جذورها إلى العصور القديمة. وفي الوقت الذي تحتفل فيه تونس بشهر التراث، كانت فعاليات الدورة 34 لهذا الحدث قد انطلقت في كركوان بعرض فني مشهدي تحت عنوان “سيدة كركوان”، يجسد تفاصيل الحياة اليومية في المدينة باستخدام تقنيات رقمية مبتكرة.
لكن وسط هذه الاحتفالات التي تكرّم تاريخ المدينة، يبقى أحد أبرز معالم كركوان في الظل: المقبرة البونية. على الرغم من قربها من الموقع الأثري، لا تزال هذه المقبرة مهملة إلى حد كبير. ورغم أنها تضم قبورًا لأهم الشخصيات البونية، فإن الموقع نفسه غير معروف لدى الكثيرين، سواء من الزوار أو حتى المهتمين بالتراث. ولا توجد أي لافتات توجيهية تشجع الزوار على اكتشاف هذا المعلم التاريخي الهام.
المفارقة هنا تكمن في أن كركوان، المدينة التي شهدت احتفالات ضخمة وعروضًا فنية استثنائية، ما تزال تفتقر إلى الاهتمام الكافي بأحد أهم جوانب تراثها، ألا وهي المقبرة البونية. أما الطريق المؤدي إليها، الذي لا يتجاوز كيلومترًا ونصف، فهوغير معبّد، ولا يتوفر عليه أي نوع من وسائل الراحة أو التوجيه. هذا الإهمال يعكس غياب استراتيجية واضحة لإحياء هذا الموقع الذي يمكن أن يقدم الكثير لفهم تاريخ شمال إفريقيا في العهد البونيقي.
الحلول كما يراها المختصون
ولحل هذه الإشكالية، يرى المختصون في التراث أنه من الضروري اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي يمكن أن تسهم في إحياء المقبرة البونية وتثمينها بشكل يعكس أهميتها التاريخية، وفي هذا السياق، يوجه المهتمون بالتراث المحلي نداءً مفتوحًا إلى وزارتي الثقافة والسياحة، ووكالة إحياء التراث، وولاية نابل، وبلدية دار علوش، من أجل:
تهيئة الطريق المؤدي إلى المقبرة: يرى المختصون أن الطريق المؤدي إلى المقبرة بحاجة ماسة إلى تحسين، بحيث يتم تعبيده بطريقة تحترم الخصوصية الأثرية للموقع. بالإضافة إلى ذلك، يجب تزويد الطريق بالبنية التحتية الأساسية مثل الإنارة واللوحات الإرشادية.
وضع لافتات توجيهية وتعريفية: يعتبر الخبراء أن المقبرة البونية بحاجة إلى لافتات تعريفية واضحة في كافة أنحاء الموقع، تُبرز تاريخ المقبرة وأهميتها كجزء من التراث البونيقي. كما يجب أن تكون هذه اللافتات بلغات متعددة لتسهيل فهمها على الزوار الأجانب.
تنظيم حملة تنقيب علمية: يتفق المختصون في مجال الآثار على ضرورة القيام بحملة تنقيب علمية شاملة، تحت إشراف فريق من الخبراء المحليين والدوليين، للكشف عن المزيد من القبور المدفونة في المقبرة. هذا التنقيب سيعزز فهمنا لفترة الوجود البونيقي في تونس ويُضيف قيمة علمية كبيرة.
إدماج المقبرة في المسارات السياحية: يُوصي المتخصصون في مجال السياحة الثقافية بضرورة إدراج المقبرة البونية ضمن المسارات السياحية التي تشمل موقع كركوان. هذا الإدماج سيسهم في تعزيز الجذب السياحي للموقع، ويساعد على تسليط الضوء على التراث الأثري الغني الذي لا يزال غير معروف للعديد من الزوار.
إطلاق حملات توعية ثقافية وتعليمية: يرى بعض المختصين أن توعية الجمهور بأهمية التراث البونيقي يمكن أن تكون خطوة هامة نحو الحفاظ عليه. من خلال حملات إعلامية وثقافية، يمكن للزوار أن يدركوا قيمة هذه المواقع الأثرية ويشعروا بالمسؤولية تجاه الحفاظ عليها.
إن المقبرة البونية بكركوان ليست مجرد موقع أثري آخر؛ هي جزء من هوية حضارية عميقة تمثل تاريخًا غنياً. بإعادة الاهتمام بهذا الموقع، يمكن أن نساهم في إثراء السياحة الثقافية وتوفير فرص للتعليم والبحث العلمي. كركوان تستحق أن تُعامل بما يليق بها كموقع تراثي عالمي، وكل خطوة نحو إحيائها ستكون بمثابة شهادة على احترامنا لتراثنا، الذي يعد أحد أبرز ملامح هويتنا الوطنية.
BY TractPlus