No Widgets found in the Sidebar

لـسيماء المزوغي 

السياسة الثقافية هي مشروع وطن، وتشريعات وقوانين وبرامج دولة، تضمّن في دساتيرها ومخططاتها، ولا تؤتي أكلها إلا بتكامل العديد من العناصر، أهمّها وجود إرادة عليا بأهمية مشروع فكري ثقافي يرتقي بالإنسان كيفما كان أينما كان، حيث تكون “الثقافة” خبزا يوميا ونمطا حياتيا.

وعندما لا يتملّك القائمون على شؤون البلاد المعنى والقيمة للسياسات الثقافية فعندها لا حياة لمن تنادي، وكلامك يا هذا …

كذلك لا يمكن للهيكل القائم على شؤون الثقافة في تونس أن يرسي أعمدة السياسات الفضلى، أبدا لا يستطيع كائن من كان ذلك إلا إذا كانت مشروع وطن كما أسلفنا. وفي حالة تونس، لا يمكن أن نتحدّث عن مشروع ثقافي في ذهنية أحادية فردية مطلقة، ذهنية محافظة لا تستوعب التعدّد والتنوّع والاختلاف.

هنالك من يقول أنّ “الثورة الثقافية” تبنى من أسفل الهرم وصولا إلى أعلاه، يمكن أن يكون ذلك صحيحا،  إلا إذا كان المواطن يتملّك الاختلاف وحقوق الإنسان الكونية والشاملة دون قيد أو شرط، حيث يدان التعصّب ولا يفلت أحد من العقاب، في هذه الحالة فقط يمكن أن نتحدّث هذه الثورة الثقافية.

وسنأتي تباعا على مختلف مكوّنات المشهد: القائمون على رعاية شؤون الثقافة، والمجتمع المدني، والفنانون/ات، والمبدعون/ات، وحاملي/ات لبنات الفكر النقدي والمؤمنون/ات بالمعنى والقيمة والتنوّع.. وطبعا سنمرّ على طفيليات هذا المشهد (بتنوعها وتعددها) واشتراكها في نقطّة الجمود ومعاداة الاجتهاد واجترار تعفنات “الثقافة المسلعنة”.

بصفة عامة تسعى السياسة الثقافية إلى ترتيب عمليات وتصنيفات قانونية وتشريعات ومؤسسات وغيرها، لتنمّية مبدأ التنوّع الثقافي وإتاحة الفنون للمواطنين وتعزيز التعبيرات الأدبية والإثنية والسوسيولغوية .. عموما يختصر أستاذ العلوم السياسية كيفين مولكاهي، كل ذلك بقوله «تستوعب السياسة الثقافية طيفًا أوسع من النشاطات التي تمّ تناولها في إطار سياسة الفنون. ففي حين أنّ سياسة الفنون كانت مقتصرةً على تناول الشؤون الجمالية (مثلًا، تمويل معارض الفن ودور الأوبرا)، تمكن ملاحظة الانتقال المهمّ إلى السياسة الثقافية في تركيزها الواضح على الهوية الثقافية، وزيادة القيمة، والسكان الأصليين وثقافتهم، وتحليلات الديناميات التاريخية (كالهيمنة والكولونيالية)».

وإنّ هذه الأسطر إلا مقدمة عامة لسلسلة من المقالات تسلّط الضوء عن السياسات الثقافية، لكن قبل ذلك، لا بدّ أن نضع النقاط على الحروف من حيث الالتباسات التي غدت لا تناقش ورسخّت فوضى المفاهيم.. فعندما نتناول موضوع السياسات الثقافية، وهو موضوع متفرّع جدّا ومتنوّع تنوّعنا نحن البشر.. لا بدّ أن نحدّد ما الذي نقصده بالثقافة؟ لا يوجد تعريف متفّق عليه هنا، ألاف المقالات الأكاديمية خاضت في تعريف ماهية هذه الكلمة الفضفاضة، ولكل تعريفه حسب مرجعيته. الثقافة هي مجموعة المعرفة المكتسبة بمرور الزمن وبهذا المعنى، فإن التعددية الثقافية تسلّط الضوء على التعايش السلمي والاحترام المتبادل، ما يخلق التقبل بين الثقافات المختلفة والمتنوّعة التي تستوطن كوكب الأرض.

السياسة الثقافية هي مشروع وطن، وتشريعات وقوانين وبرامج دولة

في إطار الأنثروبولوجيا الثقافية، فإن الأيديولوجية والموقف التحليلي للنسبية الثقافية يؤكدان أنه لا يمكن بسهولة تصنيف أو تقييم الثقافات بشكل موضوعي لأن أي تقييم يقع بالضرورة ضمن نظام قيم ثقافة معينة… في إعلان مكسيكو سيتي بشأن السياسات الثقافية، عقب المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، (1982). تمّ تعريفها كالآتي: إنّ الثقافة بمفهومها الشامل وهي المميزات المعنوية، الروحية، الفكرية والعاطفية التي تميز مجتمع ما أو مجموعة اجتماعية معا. وتشمل أيضا الفنون، الآداب، أنماط الحياة، الحقوق الأساسية للإنسان ومنظومة القيم الاجتماعية والتقاليد والمعتقدات”.. الثقافة هي سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية،  وتعدّ مفهوما مركزيا في الأنثروبولوجيا، تشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية..

هنالك من يقول أنّ “الثورة الثقافية” تبنى من أسفل الهرم وصولا إلى أعلاه، يمكن أن يكون ذلك صحيحا،  إلا إذا كان المواطن يتملّك الاختلاف وحقوق الإنسان الكونية والشاملة دون قيد أو شرط، حيث يدان التعصّب ولا يفلت أحد من العقاب

تحدّثنا عن مفهوم الثقافة باقتضاب شديد، ولكن عندما يعرّف صحفي(ة) نفسه(ا) أو كاتب(ة)  ما أو ناقد (ة) ما، بأنه مختصّ في مجال الثقافة، ما الذي يُقصد بهذا التصنيف؟ محيّر ومربك هذا التصنيف فعلا.. هل يُقصد أنه يواكب نشاطات وزارة الشؤون الثقافية وما لفّ لفها من مؤسساتها؟ هل يُقصد أنه يتناول مواضيع الآداب والكتاب؟ السينما والأفلام، المسرح؟ الموسيقى؟ الفن المعاصر؟ ألعاب الفيديو؟ وما إلى ذلك من التعبيرات الفنية؟ هل يقصد بذلك الإلمام بـ”الدكاكين الثقافية” ونشطتاها وغاياتها؟ هل يقصد أنه يحلل مقتضيات السوق الثقافية المحلية والعالمية؟ أتراه يعني أنه(ا) صحفي(ة) ثقافي رأسمالي؟ أم يعنى بأمور ما يسمى بالفن البديل؟ وهل هنالك فن رسمي وآخر بديل؟ هنا بالذات يمكن أن نكتب كتابا لا حصر له من الأسئلة..

أي كان يكتب، أعتقد أنّ المنطق الوحيد هو أن يُكتب حول فكرة ما وتُدعم بحجج واستدلالات منطقية، حتى تتراءى القيمة والمعنى. فقط لا غير، ربما من الأسلم أيضا أن نعزل كلمتي “صحفي(ة)” عن “ثقافي” حتى يستقيم المعنى..

عندما نتحدّث عن “الإعلام الثقافي ” ربما من الأجدى أن نتحدّث عن إستراتيجية لإرساء إعلام بنّاء قائم على الفكر النقدي، ولكن إلى أي مدى يمكن تحقيق ذلك؟  نتحدّث لزاما عن السياسات الثقافية للدولة ؟ نتحدث لزاما عن رؤية المؤسسات الإعلامية “للثقافة”، وعن طريقة تعاطي أغلب وسائل الإعلام مع رهانات القضايا الثقافة، وهي بالأساس نشر الفكر النقدي والوعي..  نتحدّث لزاما عن الصحفيين والصحفيات أنفسهم، وعن كل المساهمين في هذا المشهد أيضا..

عندما نتحدث عن السياسات الثقافية لا بدّ أن نتحدّث عن وزارة الشؤون الثقافية باعتبارها الهيكل الرسمي لرعاية شؤون الثقافة، تعبّر عن روح البلد والمميزات المعنوية والروحية والفكرية والعاطفية لساكنيه وساكناته.

السياسات الثقافية تضمنّ عادة في دستور البلاد، وما يتعلّق منها بالحقوق الثقافية وتنزّل في إطار التوجهات الأساسية لمخططات التنمية، كما أنّ مراجع السياسة الثقافية تكون لها شعارات وأهداف كميّة ونوعية تُقاس بمؤشرات وأرقام..

السياسات الثقافية عادة ما تنبثق من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 (الفصل عدد 27) بنازعه الثقافي وتوصيات اليونسكو إعلان مكسيكو 1982 حول الحقوق الأساسية للإنسان بمدها الثقافي و إعلان Fribourg 2007 حول الحقوق الثقافية وغير ذلك كثير من المراجع التي استأنسنا بها وهي تخص كذلك 2005 والتنوع الثقافي والحقوق والحريات والتنقل والنفاذ إلى الإبداع .

باعتبار أنّ القطاع الثقافي يعد من القطاعات الاستراتيجية  التي يتمّ عليها الرهان فعلا حاضرا ومستقبلا في التنمية البشرية والاقتصادية، إضافة إلى ذكاء دورها في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، تفاعلا مع تجارب معيارية ومقارنة «Modèle de référence Benchmark»  ، وهي  إدراج الثقافة ضمن منظومات الحوكمة المستدامة للممتلكات والخدمات الثقافية من تعلم وإبداع وإنتاج وتوزيع وترويج ونفاذ ووساطة والمساواة في الجنس الثقافي،  وإقامة علاقة متوازنة بين الممتلكات والخدمات الثقافية في علاقة بالحقوق الثقافية والكفاءات والأقطاب الجهوية للثقافة والسياسات الأفقية والسياسات البديلة Politiques Transversales Alternatives وإدراج الثقافة في سياسات إستباقيةPolitiques Culturelles Proactives  واعتماد سياسات ديناميكية مندمجة Inclusives لا تقصي أحدا وشعارها الثقافة التضامنية  Culture Solidaireتقرّ بالحقوق والحريات الفردية والعامة.

إنّ الثقافة بمفهومها الشامل وهي المميزات المعنوية، الروحية، الفكرية والعاطفية التي تميز مجتمع ما أو مجموعة اجتماعية معا. وتشمل أيضا الفنون، الآداب، أنماط الحياة، الحقوق الأساسية للإنسان ومنظومة القيم الاجتماعية والتقاليد والمعتقدات

في المقالات القادمة سنتحدّث عن كل هذا العالم بمفاهيمه وممارساته المتنوعة، عسى أن يُرفع البعض من اللبس والغموض حول ماهية هذا الكون المتعدد الذي نعيش ونبدع..