No Widgets found in the Sidebar

مع بزوغ فجر الاقتصاد الرقمي، لم يقتصر التغيير على أساليب الإنتاج والتوزيع فحسب، بل طال أيضًا مفاهيم الملكية والقيمة. في قلب هذا التحول، ظهرت الرموز غير القابلة للاستبدال أو الـNFTs، كأداة تقنية وفلسفية تعيد تعريف ما يعنيه “امتلاك” عمل فني في عصر الإنترنت.

من الناحية التقنية، الـNFT هو رمز رقمي فريد يُخزَّن على سلسلة كتل (blockchain) ويُستخدم لإثبات ملكية أصل رقمي – لوحة رقمية، مقطع موسيقي، تغريدة، أو حتى قطعة من الواقع الافتراضي. هذه الرموز حوّلت الأصول الفنية من مجرد صور يمكن نسخها بلا نهاية، إلى ممتلكات لها ندرة وقيمة سوقية.

لكن هل تمثّل هذه التقنية ثورة في صالح الفنانين؟ أم أنها مجرد فقاعة مضاربية جديدة يقودها رأس المال المغامر والمضاربون؟

أولًا، تُمكّن الـNFTs الفنانين الرقميين من بيع أعمالهم مباشرة للجمهور، دون الحاجة إلى وسطاء تقليديين كالمعارض والوكلاء. يمكن للفنان أن يبيع عملًا رقميًا مقابل عملة مشفّرة، مع خاصية مدمجة تتيح له الحصول على نسبة من كل عملية إعادة بيع مستقبلية للعمل. هذه الخاصية وحدها تشكل ثورة في نموذج العائدات الفنية.

علاوة على ذلك، فتحت الـNFTs الباب لفئات جديدة من المبدعين ممن لم تكن لديهم فرصة للولوج إلى السوق الفني التقليدي، سواء بسبب القيود الجغرافية، أو التهميش المؤسسي، أو الطابع النخبوي للسوق.

لكن في المقابل، يَعتبر كثير من الاقتصاديين أن سوق الـNFTs يخضع لقوانين المضاربة، لا لقيم فنية أصيلة. فأسعار بعض الأعمال بلغت ملايين الدولارات، لا بالضرورة لجودتها الفنية، بل لأن مستثمرًا أو مؤثرًا ما قرر تسليط الضوء عليها. هذا ما يدفع البعض إلى تشبيه هذه الظاهرة بـ”فقاعة التوليب” في القرن السابع عشر.

كما أن معظم المشترين لا يشترون العمل الفني لذاته، بل لاستثماره وإعادة بيعه بأعلى سعر، مما يُفرغ التجربة الفنية من بعدها الجمالي والمعنوي، ويحوّلها إلى مجرد سلعة رقمية.

من منظور الاقتصاد الثقافي، تُمثل الـNFTs تقاطعًا معقدًا بين الرأسمال الرمزي والرأسمال الرقمي. فالعمل الفني لم يعد يقيم فقط عبر معاييره الجمالية أو رمزيته الثقافية، بل أيضًا من خلال قابليته للتداول، والطلب عليه في السوق الرقمية.

هذا التحول يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل الفن: هل ستظل القيمة الفنية مرتبطة بالمعنى، أم أنها ستنقلب إلى مجرد رقم في سلسلة كتل؟ وهل يستطيع الفنان مقاومة منطق السوق الرقمي، أم أنه مضطر للانخراط فيه للحفاظ على وجوده؟

رغم كل ما قيل، من السابق لأوانه إصدار حكم نهائي. الـNFTs ما تزال ظاهرة في طور التشكل، تحمل إمكانيات هائلة لتحرير الفن من وسائطه التقليدية، لكنها أيضًا محفوفة بمخاطر التبسيط والتسليع والتضخم.

المطلوب اليوم ليس القبول الأعمى ولا الرفض المبدئي، بل التفكير النقدي في كيفية استخدام هذه الأدوات الجديدة، بشكل يضمن الاستدامة الثقافية، وحقوق الفنان، وتوازن السوق.

فالرهان الحقيقي ليس على التقنية، بل على الرؤية التي توجّه استخدامها.