“فرس مسيّبة على حل شعرها”، أو “فرس مسيّبة على طلق ذراعها”، أؤكد أن كل امرأة تونسية قد سمعت هذا المثل الشعبي الذي انتقل من جيل إلى جيل. يُقال لها في محيطها العائلي أو الاجتماعي، حيث يتم تشبيهها بالفرس الجامحة التي لم تُروّض بعد. يُستخدم هذا المثل لوصف النساء اللواتي يرفضن الخنوع للنواميس المجتمعية .والثقافية
لو تأملنا في الصورة التي يقدمها هذا المثل الشعبي لوجدنا جماليته، فالفرس تزدهر في جموحها ورفضها للجام، تزدهر في انطلاقها وتحررها بعيدًا عن سوط مُروّضها. توحي صورة الفرس بالحضور، والانطلاق، والجرأة. ومع ذلك، فإن المعنى الاصطلاحي لهذا المثل يحمل دلالات سلبية للغاية. يُقال لكل امرأة غير مطيعة، ويهدف إلى كسر هذه السمات من خلال عنف معنوي مستتر يسكن في لاوعيها، ما قد يزعزع صورتها عن نفسها، خصوصًا تلك التي تعبر عن رفضها للتمييز والعنف أو الأفكار القديمة التي تقلل من شأن النساء وحقوقهن.
يعود هذا المثل من حين لآخر، وتستخدمه النساء التونسيات عمدًا، وكأنهن يحاولن إفراغه شيئًا فشيئًا من معناه السلبي. يُكسبنه معنى جديدًا خاليًا من مدلوله القديم، الذي كان يُستخدم لوصم النساء وشرعنة التمييز ضدهن وتثبيته في ظل قوانين وسياسات بنيوية اقتصادية ودينية وثقافية.
البيت الآمن يكمن داخلي، حيث يتصالح بعضي مع بعضي ويقبل كلي.
“أنا فرس مسيّبة…” أصبحت إجابة تلقائية لكل امرأة ترفض أي شكل من أشكال الوصاية أو وصمها. سمعت هذا التأكيد مرارًا في الآونة الأخيرة، خاصة من النساء اللواتي يرفضن الزواج. في تونس، رغم غياب الإحصائيات الدقيقة، فإن عدد النساء اللواتي يعزفن عن الزواج ليس قليلًا، بما في ذلك النساء اللواتي يمتنعن عن الزواج بعد الطلاق. ففي آخر تقرير صدر عن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، تُصنَّف تونس بين الدول ذات نسب عالية في عزوف النساء عن الزواج، حيث تصل
النسبة إلى حدود 60%، مع ارتفاع عدد العازبات إلى أكثر من مليوني وربع مليون امرأة من مجموع نحو أربعة ملايين و900 ألف أنثى في البلاد.
مع مرور الزمن لم أعد أبالي بما تؤمن به الجماعة.
إحدى النساء تحدثت عن موقفها قائلة: “امتنعت عن الزواج مرة أخرى، أعيش حياتي كما أرها أنا. لم يستوعب أحد ذلك، وظنوا أني امرأة مجروحة أو معقدة من تجربة فاشلة، لكني لم أبالِ. احتميت في البداية بالعمل؛ فأنا دائمًا ما أستند إلى نفسي. تعلمت أن أخوض الحروب داخلي دون سفك للدماء. البيت الآمن يكمن داخلي، حيث يتصالح بعضي مع بعضي ويقبل كلي. قد يبدو هذا شعارًا جيّدًا، لكني لم أترك العوالق تصنع طريقي. أنا من أعبّده كل يوم. قلة قليلة تفهم هذا الحق. يعتبرون وضعيتي غير مريحة، لكن مع مرور الوقت، لم أعد أبالي بما تؤمن به الجماعة. لا أطلب المساعدة من فارس أحلامي، ولا أحتاج إلى من يعتني بي، أو أن يقوم بكل الأمور الرومانسية التي يضعونها في خانة الحب الجامح السرمدي الأبدي. حشروها في أذهاننا منذ كنا أطفالًا.”
لم أفهم لماذا تتمنى الفتيات ارتداء الفستان الأبيض بكل ذلك الحماس، وكأن القيد يمكن أن يحرّرهن أكثر
وتتحدث أخرى عن تجربتها مع الطلاق: “بعد طلاقي، صببت كل مخاوفي وانكساراتي في عملي. اليوم أقر بأن العمل رمّمني، جعلني أكثر قوة. في تلك الأيام، كنت أرى الطلاق أبغض الحلال، بل كنت أراه عيبًا أو خطيئة، ولكن هناك شيء في داخلي رفض الاستكانة لعبارة ’مغرفتي اش هزت‘.”
تستذكر المرأة أيضًا الضغوط المجتمعية التي واجهتها بعد طلاقها: “كنت أعيش بعيدًا عن عائلتي، في منزلي الخاص. سئمت جمل النساء التي تخفي شفقة مثل ’ربي يجيبلك مكتوبك‘ أو ’بنيتي توا تاخو سيد سيدو‘. تخيلوا كم العنف النفسي الذي تعرضت له؟ ومع ذلك، لم أعد أسمح لأحد أن يتحدث معي بتلك الطريقة. أصبحت فرسًا مسيّبة، حرة طليقة.”
أنا أحب نفسي ولا حاجتي لي بقبولهم أو رفضهم ولكن هذا لا يبني مجتمعا يؤمن بحريات الآخرين
تشارك أخرى تجربتها مع العروض المتكررة للزواج بعد الطلاق: “عرض عليّ أحدهم الزواج بعد طلاقي، وقال لي: ’أنا قابلك كيما انت مطلقة‘. بدا لي هذا مشينًا. ولا أنسى ذلك الرجل الحقوقي الذي نصحني بأن أتزوج رجلًا مطلقًا أو أرملاً كي لا يعيرني يوما ما، ولكني فضّلت أن أعيش كفرس مسيّبة.”
وترى النساء أن العزوف عن الزواج قد أصبح في بعض ثناياه موقفًا من منظومة الزواج ككل. تشير أخرى إلى أن رفض الزواج أصبح حقًا إنسانيًا كونيًا، لكنها ترى أن المجتمع لا يطمئن إلا إذا كانت المرأة جزءًا منه.