No Widgets found in the Sidebar
مقال للكاتبة ليلى آردنت

 

في زمنٍ يتسارع فيه الانتقال من العوالم المادية إلى الرقمية، يبدو أن فكرة “المسخ” التي تناولها الكاتب الألماني فرانز كافكا في روايته الشهيرة المسخ (Die Verwandlung) تجد صدى قويًا في هذا العصر. لقد رسم كافكا صورة قاتمة لتحول الإنسان إلى حشرة ضخمة، ليقدم لنا عالماً من الاغتراب الداخلي والعزلة النفسية التي لا تعرف الرحمة. وإذا كنا نعتقد أن ما عايشه بطل الرواية، غريغور سامسا، كان مجرد خيال أدبي، فإننا اليوم نعيش في واقع مشابه، وإن اختلفت تفاصيله. في عصرنا الحالي، حيث تقود منصات مثل “تيكتوك” التفاعلات الاجتماعية، نجد أنفسنا نشهد نوعًا آخر من التحول الذي لا يقل غرابة: تحول الهويات البشرية إلى “مسخ” رقمي يشوه الحقيقة ويغتال جوهر الإنسان.

 

المسخ الثقافي والاجتماعي في الفضاء الرقمي

في رواية كافكا، كان “المسخ” ليس مجرد تحول جسدي بل كان تجسيدًا لحالة عميقة من الاغتراب النفسي والاجتماعي. وعندما ننتقل إلى هذا العصر الرقمي الذي يسوده تيكتوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي، نجد أن هذا “المسخ” قد أخذ شكلًا آخر. في هذا الفضاء الافتراضي، يتحول الأفراد إلى نسخ متقلبة من أنفسهم، يبحثون عن إرضاء الآخرين، ويعرضون أنفسهم في صور قد تكون أبعد ما تكون عن حقيقتهم. هناك من يتبنى هويات مزيفة، يرتدي أقنعة تتماشى مع معايير الجمال أو الفكاهة أو حتى الحزن المبالغ فيه، دون أن يدرك أن هذه الهوية المصطنعة تساهم في خلق اغتراب داخلي عميق.

إنه تحول يبدو ظاهريًا غير مضر، لكنه في العمق يقود الإنسان إلى حالة من الفراغ النفسي العميق. كلما تمتع الشخص بمشاهدات أكثر، كلما اقترب أكثر من فقدان ذاته الحقيقية. يصبح الفرد مجرد “مسخ” رقمي، يحمل ملامح غيره أكثر من ملامحه الأصلية. وهكذا، يبدأ الشعور بالعزلة، تمامًا كما شعر غريغور سامسا في الرواية، وهو عاجز عن العودة إلى ذاته بعد أن اجتاحه هذا التحول الغريب.

 

إنه تحول يبدو ظاهريًا غير مضر، لكنه في العمق يقود الإنسان إلى حالة من الفراغ النفسي العميق. كلما تمتع الشخص بمشاهدات أكثر، كلما اقترب أكثر من فقدان ذاته الحقيقية. يصبح الفرد مجرد “مسخ” رقمي، يحمل ملامح غيره أكثر من ملامحه الأصلية.

أمثلة حية على “المسخ” في تيكتوك

لنأخذ مثالًا حيًا من الواقع الرقمي الحالي: الحركات الراقصة التي تهيمن على تيكتوك، والتي بدأت كنوع من التعبير العفوي، لتتحول مع مرور الوقت إلى سمة أساسية من سمات المنصة. إذا تأملنا في الأمر، نجد أن الكثير من هؤلاء الذين يشاركون في هذه الحركات، التي تلاقي إقبالاً جماهيريًا، لا يمتلكون هذه الحركات كجزء من هويتهم الثقافية أو الفنية. بل هم يُجبرون على تقليدها، ليصبحوا جزءًا من الدائرة المغلقة لهذه الظاهرة، حتى وإن كان ذلك يتناقض مع طبيعتهم. هذه الحركات الراقصة لم تعد مجرد تعبير عن الذات، بل تحولت إلى سمة جماعية، وكأنها فرضٌ ثقافي.

إن هذه الظاهرة توضح بشكل جلي كيف يمكن أن يُسحق الفرد تحت وطأة ما يُسمى بالـ”تريندات” التي تفرضها منصات مثل تيكتوك. فالمحتوى الذي يبدأ كفكرة بريئة أو مبتكرة يتحول بمرور الوقت إلى نمط تقليدي، ويُستهلك من قبل الجميع دون أن يتوقف أحد ليفكر: “هل هذا يعبر عني حقًا؟”. هنا نرى كيف يتشكل “المسخ” الثقافي، ليس فقط في المظهر، بل في السلوك، وفي طريقة تعبيرنا عن أنفسنا.

 

تيكتوك: مسرح المسخ والاغتراب

لكن ما الذي يحدث هنا؟ هل نحن أمام ظاهرة مشابهة لما عاشه بطل المسخ؟ هل أصبح تيكتوك بمثابة المسرح الذي يتم فيه “إعدام” الهويات الحقيقية وتحويلها إلى هويات افتراضية لا تمت للواقع بصلة؟ أليس هذا النوع من “المسخ الرقمي” هو شكل من أشكال الاغتراب الحقيقي؟ في الواقع، فإن تيكتوك، بما يمتلكه من أدوات لتحفيز التفاعل، قد يكون قد أصبح المكان الذي تُصاغ فيه هوياتنا مجددًا، بعيدًا عن كل ما هو أصيل أو حقيقي.

في هذا العالم الرقمي، تصبح الشخصية الإنسانية مجرد سلعة تُعرض على الشاشة وتُستهلك بسرعة، تتنقل بين التريندات، وتمر من مرحلة إلى أخرى، تاركة خلفها فراغًا كبيرًا. هذا التحول العميق يؤدي إلى عزلة نفسية تجعل الفرد يشعر بأنه غريب في مجتمعه. هي حالة من الاغتراب التي يعيشها الشخص وهو يرى نفسه يتبدل باستمرار ليلائم هذه الفضاءات الرقمية التي تستهلك هويته وتعيد تشكيلها وفقًا لمعايير ضبابية تسيطر على الجميع.

 

العواقب النفسية والاجتماعية: هوية مشوهة واغتراب دائم

وفي هذه البيئة، حيث تندمج الهويات وتصبح مشوهة، تظهر تداعيات نفسية عميقة لا يمكن تجاهلها. يتحول الأفراد إلى آلات تكرار، يمارسون حياتهم وفقًا للمعايير الاجتماعية التي يفرضها تيكتوك وغيره من المنصات. هذا التغيير لا يقتصر على الشكل فقط، بل يمتد ليشمل الداخل: كيف يشعر الإنسان بعد كل مقطع ينشره؟ هل يشعر بالرضا؟ أم أن الفراغ يلاحقه بعد كل مرة يخلع فيها قناعه الرقمي؟

هذا الفراغ لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل المجتمع ككل. ففي عالم حيث يتم تقليل الإنسان إلى مجرد “محتوى” يُستهلك، يُصاب المجتمع بمرض “الاغتراب الجماعي”. هل نحن في عالم من المسوخ؟ حيث تحولت هويتنا إلى صور استهلاكية يُعيد الآخرون تشكيلها حسب أهوائهم؟

 

هل نحن في عالم من المسوخ؟

إنه سؤال لا يمكننا تجاهله: هل نحن فعلاً في عالم من المسوخ، حيث تُسحق هوياتنا تحت وطأة المعايير الرقمية المتغيرة؟ أم أننا أمام فرصة للعودة إلى ذواتنا الحقيقية، بعيدًا عن هذه المظاهر الزائفة؟ يجب أن نتوقف لحظة لنفكر في العواقب النفسية والاجتماعية التي قد تترتب على هذا التحول، وكيف يمكننا أن نعيد بناء أنفسنا في هذا العالم الذي يغتال ما هو أصيل. علينا أن نسعى للعثور على الطريق الذي يعيدنا إلى إنسانيتنا، بعيدًا عن ثقافة “المسخ” الرقمي التي تلاحقنا في كل زاوية من هذا الفضاء الافتراضي.

مقال للكاتبة

ليلى آردنت