No Widgets found in the Sidebar

د الزواوي بفورة

أستاذ الفلسفة المعاصرة في قسم الفلسفة كلية الآداب، جامعة الكويت

تقدم الفلسفة الحديثة والمعاصرة ثلاث مقاربات منهجية للمستقبل. تنتمي المقاربة الأولى إلى فلسفة التاريخ، والثانية إلى مكانة المستقبل لدى بعض الفلاسفة، والثالثة إلى المجال المعرفي حيث يُطرح سؤال المستقبل انطلاقاً من المعارف القائمة في الحاضر، وإمكانية معرفة الفلسفة للمستقبل مقارنة بباقي العلوم والمعارف، مقروناً بالسؤال عن مستقبل الفلسفة ذاته. وهو ما يشكل خصوصية الفلسفة مقارنة بعلم الاقتصاد أو علم السكان أو علم السياسة أو علم المستقبليات الذي يمكنه أن يطرح سؤال المستقبل من دون أن يطرح سؤال مستقبله. في حين أن الأمر مختلف في الفلسفة، لأن هنالك من يتحدث عن «موت الفلسفة»، و«نهاية الفلسفة»، و«ما بعد الفلسفة». ولا تأتي هذه الدعاوى أو الأطروحات من خارج الفلسفة وخصومها فقط، وإنما من داخل الفلسفة نفسها وأنصارها، وهو ما نقرأه في الوضعية المنطقية أو البنيوية على سبيل المثال لا الحصر : فكيف يمكن للفلسفة أن تتحدث عن المستقبل، ومستقبلها موضوع سؤال، علماً أن الأمر لا يتعلق بمستقبلها بوصفها فرعاً من الفروع العلمية الإنسانية، أو مادة تعليمية فقط، وإنما بجدواها وجدوى المعرفة التي يمكن أن تقدمها، وبخاصة معرفتها بالمستقبل؟

 في فلسفة التاريخ

تعني فلسفة التاريخ من جهة أولى البحث في معنى التاريخ ومساره وخطته أو قانونه العام ومن جهة ثانية النظر في مناهج التاريخ أو أسس المعرفة التاريخية، وبناءً على هذا التعريف الأولي يتم التمييز بين ما يُسمّى فلسفة التاريخ التأقلية (speculative)، وفلسفة التاريخ النقدية (critique). وبالمعنى الأول تكون فلسفة التاريخ عبارة عن مجموعة من الأطروحات والفرضيات والنظريات حول مسار التاريخ وغايته ومستقبله، وبالمعنى الثاني تكون عبارة عن بحث حول إمكانية قيام المعرفة التاريخية.

من الناحية التاريخية لم يستعمل مصطلح فلسفة التاريخ قبل القرن الثامن عشر وأول من استعمله هو المفكر الفرنسي فولتير في كتابه محاولة في دراسة العادات (1756)، وأسهم في تأسيسها كل من المؤرخ الإيطالي جان باتيستا فيكو في كتابه «مبادئ العلم الجديد» (1744)، والفيلسوف الألماني هردر في كتابه «آراء في فلسفة تاريخ الإنسانية (1774)، والفيلسوف الفرنسي كوندرسيه في كتابه لوحة تاريخية عن تقدم الفكر

الفيلسوف الألماني هيغل في القرن التاسع عشر التي بشطها فى كتابه «العقل فى التاريخ (1822)، وفيه البشري (1795)، بحيث قدموا تصوراً منسقاً عن العالم التاريخي الإنساني ومستقبله سيظهر بجلاء في نظرية يرى أن الفكرة الوحيدة التى تجلبها الفلسفة معها إلى تأمل التاريخ، هي المفهوم البسيط العقل إن العقل سيد العالم، ولذلك فإن تاريخ العالم عبارة عن عملية عقلية. والمقصود بالعقل هو جوهر وقوة لانهائية القانون يحكم العالم. كما عثرت عنه الحقيقة الدينية في المسيحية التي ترى أن العالم ليس متروكا للمصادقة. تشمل الحياة الطبيعية والروحية، عبر عنه قديماً الفيلسوف اليونانى انكساغوراس الذي قال إن الناموس) أو بل ثقة عناية إلهية من هنا فإن الأحداث تجري وفق من تصارع في تقدم المحكوم بمنطق عقلي بالالي والشخصيات والأبطال تحقق أهداف العقل، وأن مسار التاريخ في تقدم مستمر مهما انهارت الحضارات الي القطت الدول والإمبراطوريات، وأن التقدم يتحقق بتناقضات وصدامات وحروب وثورات، وأن المستقبل الكلي للتاريخ الإنساني يتقدم نحو الحرية.

على هذا الأساس، فإن التاريخ البشري قد عرف ثلاث مراحل أساسية في عملية تحقيق الحرية، وهي: مرحلة الطغيان الشرقي، حيث الحرية لا تظهر إلا في الفرد الطاغية، أما البقية فليسوا إلا عبيداً، ومرحلة الديمقراطية اليونانية، حيث يكون المواطنون أحراراً والبقية عبيداً. والمرحلة الجرمانية، حيث يكون الإنسان حراً لأنه إنسان وتلعب الدولة في هذه المراحل الدور الأساسي في تحقيق الحرية.

ولقد استمرت فلسفة التاريخ بما هي تفسير لمعنى التاريخ ومساره وخطه في القرن العشرين، حيث برزت أسماء كثيرة لفلاسفة ومؤرخين، ومنهم على وجه التحديد الفيلسوف الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب: نهاية التاريخ والإنسان الأخير (1989)، الذي رأى، وذلك بناء على تأويل معين لنظرية هيغل في التاريخ ومستقبله، أن التاريخ يُثبت انتصار الليبرالية، وذلك بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفيد عبارة «نهاية التاريخ» معنيين، الأول: تحقق قيم المساواة والعدالة، والحرية والسعادة، والثاني: قيام النظام السياسي الأوحد، متمثلاً بالنظام الأميركي. وكلا المعنيين يحتكمان للأطروحة القائلة: «إن الديمقراطية اللبيرالية بإمكانها أن تشكل فعلاً منتهى التطور الإيديولوجي للإنسانية»، و«الشكل النهائي لأي حكم إنساني»، أي أنها من هذه الزاوية نهاية التاريخ و«أنها أفضل العوالم الممكنة».. لماذا؟ لأن الديمقراطية الليبرالية خالية من التناقضات الأساسية.

في مقابل هذه النظرة الفلسفية للتاريخ ومستقبله القائمة على فكرة التقدم والتفاؤل، ثمة نظرة فلسفية تركز على فكرة الانحطاط والتقهقر، ويُمثلها الفيلسوف الألماني اشبنغلر في كتابه: تدهور الغرب (1918) الذي استبدل فكرة المستقبل بفكرة المصير التي تثبت أن التاريخ هو مجال لمختلف الحضارات التي تظهر وتقدير فتاريخ الحضارات يُشبه الكائنات الحية، تولد وتنمو ثم تموت. وأن فكرة التقدم لم تؤد إلا إلى ظهور التربة المركزية الأوروبية التي تجعل من أوروبا مركزاً للعالم، وقسمت التاريخ إلى قديم ووسيط وحديث ومعاصر. وهو ما يعني أن مفهوم الحضارة، وليس الدولة أو الروح أو العقل هو الوحدة الدراسية التاريخية الأولية للتاريخ، بحيث قدموا تصوراً منسقاً عن العالم التاريخي الإنساني ومستقبله سيظهر بجلاء في نظرية يرى أن الفكرة الوحيدة التى تجلبها الفلسفة معها إلى تأمل التاريخ، هي المفهوم البسيط العقل إن العقل سيد العالم، ولذلك فإن تاريخ العالم عبارة عن عملية عقلية. والمقصود بالعقل هو جوهر وقوة لانهائية القانون يحكم العالم. كما عثرت عنه الحقيقة الدينية في المسيحية التي ترى أن العالم ليس متروكا للمصادقة. تشمل الحياة الطبيعية والروحية، عبر عنه قديماً الفيلسوف اليونانى انكساغوراس الذي قال إن الناموس) أو بل ثقة عناية إلهية من هنا فإن الأحداث تجري وفق من تصارع في تقدم المحكوم بمنطق عقلي بالالي والشخصيات والأبطال تحقق أهداف العقل، وأن مسار التاريخ في تقدم مستمر مهما انهارت الحضارات الي القطت الدول والإمبراطوريات، وأن التقدم يتحقق بتناقضات وصدامات وحروب وثورات، وأن المستقبل الكلي للتاريخ الإنساني يتقدم نحو الحرية.

على هذا الأساس، فإن التاريخ البشري قد عرف ثلاث مراحل أساسية في عملية تحقيق الحرية، وهي: مرحلة الطغيان الشرقي، حيث الحرية لا تظهر إلا في الفرد الطاغية، أما البقية فليسوا إلا عبيداً، ومرحلة الديمقراطية اليونانية، حيث يكون المواطنون أحراراً والبقية عبيداً. والمرحلة الجرمانية، حيث يكون الإنسان حراً لأنه إنسان وتلعب الدولة في هذه المراحل الدور الأساسي في تحقيق الحرية.

ولقد استمرت فلسفة التاريخ بما هي تفسير لمعنى التاريخ ومساره وخطه في القرن العشرين، حيث برزت أسماء كثيرة لفلاسفة ومؤرخين، ومنهم على وجه التحديد الفيلسوف الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب: نهاية التاريخ والإنسان الأخير (1989)، الذي رأى، وذلك بناء على تأويل معين لنظرية هيغل في التاريخ ومستقبله، أن التاريخ يُثبت انتصار الليبرالية، وذلك بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفيد عبارة «نهاية التاريخ» معنيين، الأول: تحقق قيم المساواة والعدالة، والحرية والسعادة، والثاني: قيام النظام السياسي الأوحد، متمثلاً بالنظام الأميركي. وكلا المعنيين يحتكمان للأطروحة القائلة: «إن الديمقراطية اللبيرالية بإمكانها أن تشكل فعلاً منتهى التطور الإيديولوجي للإنسانية»، و«الشكل النهائي لأي حكم إنساني»، أي أنها من هذه الزاوية نهاية التاريخ و«أنها أفضل العوالم الممكنة».. لماذا؟ لأن الديمقراطية الليبرالية خالية من التناقضات الأساسية.

في مقابل هذه النظرة الفلسفية للتاريخ ومستقبله القائمة على فكرة التقدم والتفاؤل، ثمة نظرة فلسفية تركز على فكرة الانحطاط والتقهقر، ويُمثلها الفيلسوف الألماني اشبنغلر في كتابه: تدهور الغرب (1918) الذي استبدل فكرة المستقبل بفكرة المصير التي تثبت أن التاريخ هو مجال لمختلف الحضارات التي تظهر وتقدير فتاريخ الحضارات يُشبه الكائنات الحية، تولد وتنمو ثم تموت. وأن فكرة التقدم لم تؤد إلا إلى ظهور التربة المركزية الأوروبية التي تجعل من أوروبا مركزاً للعالم، وقسمت التاريخ إلى قديم ووسيط وحديث ومعاصر. وهو ما يعني أن مفهوم الحضارة، وليس الدولة أو الروح أو العقل هو الوحدة الدراسية التاريخية الأولية للتاريخ وتجارب شاملة في التأديب والتربية تضع حداً لسيطرة الحمق والمصادقة المانية تلك التي سميت حتى الآن تاريخاء وحمق العدد الأكبر، ليس سوى شكله الأخير من أجل ذلك سيكون ذات يوم، بنا حاجة إلى ضرب جديد من الفلاسفة والأمرين، حاجة إلى من أمام صورته سيبدو كل ما قد حضر على الأرض من أرواح حفية وشرعية وصلة التية باهنا وتافها، وكل ذلك ضمن منظور نقد القيم القائمة، والتأسيس لقيم جديدة ومنظور جديد يتعارض ظاهرياً مع فكرة المستقبل، ويتفق معه في العمق، وأعني بذلك فكرته عن «العود الأبدي، الذي يرى فيه الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز ليس عودة للهوية والتكرار، وإنما للاختلاف والتجدد، على الرغم مما تطرحه هذه الفكرة من مشكلات أشار إليها الفلاسفة المهتمون بنيتشه، وعلى رأسهم هايدغر وكارل ياسبرس.

بين الحاضر والمستقبل

ولكن إذا كان نيتشه قد حاول تأسيس فلسفة للمستقبل توقف عندها كثير من الفلاسفة المعاصرين المتأثرين به أو ما يعرف بالنيتشوتين المعاصرين أو فلاسفة الريب والشك، فإن ثمة من بين هؤلاء الفلاسفة من ركز في قراءته لهذه الفلسفة على مفهومه للفلسفة، بما هي تشخيص للحاضر قبل المستقبل، ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي جعل من مفهوم التشخيص الذي استمده من نيتشه مفهوماً مركزياً في تحديد الفلسفة ووظيفتها، وعزّزه بقراءة للفيلسوف كانط، وبخاصة لمقالته: جواب عن السؤال: ما التنوير؟

ومما لا شك فيه أنه لا يمكن الحديث عن المستقبل إلا انطلاقاً من حاضر ما، وأن الفلاسفة عبر تاريخ الفلسفة قد تناولوا جوانب من حاضرهم وراهنهم وعصرهم، وحاولوا الإجابة عن السؤال: ما الذي يجري الآن؟ أو ما الذي يحدث الآن؟ و ما الذي سيحدث مستقبلاً؟ ولكن السؤال عن العصر الحاضر قد اتخذ شكلاً جديداً منذ مؤسس الفلسفة النقدية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804)، وذلك وفقاً لقراءة قدمها فوكو في بداية ثمانينيات القرن العشرين بين فيها أن السؤال عن العصر الحاضر قد اتخذ صيغة جديدة مؤداها: ما هو هذا العصر الحاضر الذي تنتمي إليه؟ أي ما الذي يجعل من عصرنا حدثاً تاريخياً؟ فلم يعد الفيلسوف يطرح سؤال انتمائه إلى مذهب أو تثار فلسفي أو إلى الإنسانية، وإنما إلى عصر معين. وثقافة معينة، وحاضر معين، وأن ثمة تلازماً بين العصر الحاضر بوصفه حدثاً وبين الحداثة، وأن إحدى وظائف الفلسفة المعاصرة بحسبه، هي مساءلة العصر الحاضر وراهنه أو آنيته

ولقد بين ذلك من خلال تعليقه على نص كانط المشار إليه سابقاً، وذلك في مناسبات عديدة، أهمها ما جاء في درسه الأول لعام 1983، وفيه رأى أن نص كانط هو أول نص فلسفي يطرح موضوع العصر الحاضر بوصفه حدثاً فلسفياً، ويُحدد ذور الفلسفة في الحاضر المتمثل في عصر التنوير الذي ميز القرن الثامن عشر الأوروبي، وأنه إذا كانت الفلسفة، كما يقول فوكو، تمثل شكلاً من الممارسة الخطابية لها تاريخها الخاص، فإنها قد أصبحت تطرح موضوع العصر الحاضر بوصفه مشكلة. ولا يتعلق الأمر بالانتماء إلى نظرية أو مذهب، وإنما الانتماء إلى الجماعة الإنسانية المعينة، أو إلى جماعة ثقافية واجتماعية معينة، وبالتالي تصبح هذه الجماعة موضوع تفكير الفيلسوف، أي إن تجربة ثقافية واجتماعية معينة حاضرة هي التي تصبح موضوع تفكير الفيلسوف، والمقصود بذلك، طبعاً، تجربة التنوير في ألمانيا خصوصاً وأوروبا عموماً.

ينجم عن هذا الفهم للفلسفة بوصفها تفكيراً وتساؤلاً وتشخيصاً للعصر الحاضر، وحاضر ثقافة معينة، هو أنها تحولها إلى خطاب حول الحداثة، أو كما يقول: «إن الفلسفة التي تجعل من الحاضر إشكالية، وتساؤل الفيلسوف حول الحاضر الذي ينتمي إليه، يجعل من الفلسفة خطاباً حول الحداثة. ولقد طرح موضوع الحداثة في تاريخ الفكر الغربي الحديث على أساس الصراع بين القديم والحديث، واتخذ صورتين الأولى صورة القبول بسلطة القدماء على المحدثين وعدم رفضها. والثانية، صورة تقييم ومقارنة مؤداها : هل القدماء أرقى من المحدثين؟ وهل المرحلة الحديثة تعتبر مرحلة انحطاط؟ إلا أن جديد كانط، وفقاً لقراءة فوكو، تمثلت في الخروج من هذا التقابل والتعارض بين القدماء والمحدثين، وذلك بطرحه مسألة العصر الحاضر كإشكالية أو مسألة أو قضية. يجب أن نبحث في مكانتها ومعناها، وأن تحدد ما يجب القيام به نحوها، وبذلك يكون كانط قد أسس اتجاهين أساسيين في النقد اتجاة أول يبحث في شروط المعرفة والحقيقة، وظهر في الثلاثية النقدية: نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم واتجاه نقدي ثان يبحث في عصرنا الحاضر وفي المجال الحالي للتجارب الممكنة، وظهر في مجموعة من نصوصه ومقالاته حول التاريخ والثورة والتنوير وغيرها من النصوص الكثيرة. ويسمي فوكو هذا الاتجاه النقدي الثاني باسم أنطولوجيا الحاضر. وتجد الفلسفة المعاصرة نفسها أمام إحدى الخيارين إما تحليل الحقيقة والمعرفة، أو تحليل أنطولوجيا ذاتنا وحاضرنا وتشخيصها. وتنتمي إلى الخيار الثاني في الفلسفة المعاصرة مدرسة فرانكفورت»، وفوكو نفسه وأما الخيار الأول فتنتمي إليه

الفلسفة التحليلية والفينومينولوجيا.

ولقد حدد كانط العصر الحاضر أو التنوير بطريقة سلبية، باعتباره خروجاً من حالة القصور. يقول: «التنوير خروج من حالة القصور التي يعيش فيها الإنسان وهو مسؤول على ذلك. ولم يزد عنه فوكو إلا بالقول إن هذا العصر الحاضر، لا يتمثل في كليته أو في عملية إنجازه، ولكن في ما يشكله من «اختلاف»، أو بتعبير آخر. في اختلافه عن الماضي، وفي علاقته بالحداثة وليست الحداثة حقية الكون قرة أو مجموعة من السعاد العالي، وإنما هي أول موقف أو توله وكل وين وإبداع يكون في نزاع أو صراع مع موالين مضادة للحداثة، وثانياً، موقف مرتبط بالذات بما هي تشكل وتكوين وإبداع … لكن إذا كان الحاضر يتميز باختلافه عن الماضي، فإن السؤال الذي يعنينا هو ما علاقته بالمستقبل، وهان ساعدنا الحاضر بما هو اختلاف عن الماضى فى معرفة المستقبل؟ وهل تسعفنا الفلسفة بما في تشخيص

نقدي لهذا الحاضر في معرفة المستقبل؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال ما لم تجر تشخيصاً أولياً لحاضرنا القائم، فإذا كان عصر التنوير في القرن الثامن عشر قد سمى نفسه بهذا الاسم إدراكاً منه لنفسه، ووعياً منه بذاته، فإنّنا في بداية العشرية الثالثة من الألفية الثالثة قد وصفنا عصرنا بأوصاف كثيرة عامة وخاصة، ومنها: «العولمة» في الإشارة إلى التحولات التي عرفها العالم في جوانبه الاقتصادية والتجارية والتقنية، أو ما بعد الحداثة عندما ترغب في التركيز على الجوانب الفكرية والفلسفية والجمالية تحديداً، والتأكيد على نهاية ما سماه مصمم هذا المصطلح الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) بنهاية السرديات الكبرى، بما في ذلك سرديات التنوير نفسه، وتعيين علاقتنا الجديدة بالتاريخ والحداثة نفسها، ومنها ما هو خاص كالإشارة إلى العصر الرقمي» يحكم دور التقنية الرقمية في الحياة الإنسانية المعاصرة، أو عصر ما بعد الحقيقة»، أو عصر ما بعد الإنسان»، أو غيرها من الأوصاف التي تقدم بلا شك، إما جوانب عامة أو جوانب خاصة يُمكن رصدها في دراستنا لعصرنا بوصفه حقبة زمنية، ولكن ما هو ذلك الوصف الذي ينطبق على عصرنا بوصفه جزءاً منا، ويجعلنا ندرك ونعي إمكانياتنا وحدودها في الوقت نفسه ويسمح لنا برسم صورة أولية لمستقبلنا ؟

يبدو لي أن ثقة ثلاثة مفاهيم أساسية تفرض نفسها في كل محاولة لتشخيص حاضرنا، وتدير مستقبلنا: مفهوم التعقيد أو التركيب (complexite)، ومفهوم التسارع أو التغير المتسارع (accélération)، ومفهوم الهشاشة (vulnerabilite). ولقد حلل بإسهاب المفهوم الأول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، وجعله عنواناً مركزياً لمشروعه الفلسفي: المنهج، وخصه بكتاب: مدخل إلى الفكر المركب (1991)، ناقداً فكرة التبسيط التي تهيمن على التحليلات العلمية، وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأن إبيستمولوجيا التعقيد والتركيب هي المقاربة المناسبة لفهم عالمنا المتداخل والمتشابك، وإصلاحه في الوقت نفسه، يقول: «إن التعقيد هو الوحدة بين البساطة والتعقيد إنها وحدة تجمع بين صيرورات التبسيط التي تقوم بالاختيار والترتيب والفصل والاحترال، والصيرورات المضادة الأخرى التي هي التواصل، أي وصل ما هو مفصول ومتميز .

بتضافر مفهوم التعقيد مع مفهوم التسارع الذي يميز عصر الحداثة المتأخرة بحسب عبارة الفيلسوف الألماني. هارتموت روزا الذي بين أن التحول المتسارع لشروط الحياة والمؤسسات والعلاقات، أو بعبارة أخرى إن تسارع التغير الاجتماعي يجعل الأفراد أمام المشكلة الآتية يجب عليهم تخطيط حياتهم على المدى البعيد حتى يحققوا استقراراً زمنياً، غير أنه يتعذر عليهم تحقيق هذا الإجراء العقلاني بسبب عرضية الشروط الاجتماعية المتزايدة وليس من شك أن هذه الصعوبة المطروحة بحدة في زمن الحداثة المتأخرة، لا تحصى الفاعلين كأفراد

فقط، وإنما بالأخرى تخص المجتمع برقته وقد تبين أنها لمثل المشكلة الأساسية لزماننا هذاية. ويعزّزه مفهوم الهشاشة الذي أصبح يفرض نفسه أكثر في كل محاولة لوصف حاضرنا، وتوقع مستقبلنا، وليس مرد ذلك إلى أننا تحاول بالكاد الخروج من جائحة كورونا (كوفيد 19 التي أثبتت مدى تعقد حياتنا وهشاشتها في الوقت نفسه، ولكن لأن هذا اللفظ أصبح حاضراً في كثير من التحليلات التي تعنى بالتجربة الإنسانية المعاصرة سواء في شكلها الكلي أم الجزئي، أم في شكلها المجرد أم المشخص، أم في شكلها الكوني أم المحلي.

ومعلوم أن لفظ الهشاشة متداول في مجالات عديدة، أهمها مجال الطب والطب النفسي الذي يستعمل عبارة «هشاشة العظام» و«الهشاشة النفسية. كما يستعمل اللفظ في المجال الاجتماعي توصف ظواهر الفقر والعوز، وذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك في المجال البيئي للإشارة إلى ما تتعرض له الطبيعة من أخطار. تتجلى في الفيضانات الكبرى، والأعاصير. وموجات الجفاف والحرارة المرتفعة وتردي الأراضي والغابات، وتلوث المياه الجوفية، وانقراض بعض أنواع النباتات والحيوانات، وكلها علامات على هذا التغير المناخي الذي يصيب الكرة الأرضية ويجعلها هشة ، بحيث يصع قلب صيغة السؤال من ما الشيء الهش إلى ما هو الشي غير قابل للهشاشة، ما دامت الهشاشة تعني القابلية للانكسار والعطب، والضعف الذي يتسم به الوجود الإنساني، وما دام الاعتراف بهشاشة الوضع الإنساني أصبح شرطاً في كل تفكير اجتماعي أو نفسي أو فلسفي، وهو بذلك يكتسي قيمة دلالية وإجرائية أوسع وأدق ويستعمل بطريقتين مختلفتين، لكنهما متكاملتان. وأعني بذلك أن الهشاشة تحيل أولاً إلى عنصر متغير يُميّز بعض الأفراد والأشخاص والمجموعات والمراحل العمرية. وتشير ثانياً إلى خاصية تكوينية في الإنسان. كما تتصف بقيمتين منهجيتين وصفية ومعيارية، لأن الهشاشة واقع قائم وفعلي وحقيقي نستعمله في وصف حالنا وأحوالنا ومعياري، لأنه يفترض قيماً أخلاقية، وترامج مستقبلية. بناء عليه فإن الفلسفة المعاصرة في نظرتها إلى المستقبل، وبخاصة في جانبها السياسي والأخلاقي والاجتماعي. أو ما أصبح يُصطلح عليه بالفلسفة الاجتماعية، تأخذ هذين المعطنين المعبر عنهما بمفهومي: التعقيد والهشاشة.

بعين الاعتبار في كل محاولة لرسم المستقبل وتوقعه، مدعومة بما تعرفه المعرفة الإنسانية من تطورات علمية واقتصادية هائلة، وخصوصاً تلك المتعلقة مباشرة بالإنسان ومصيره.

هذا يعني أن الفلسفة المعاصرة لم تعد تهتم بفلسفة التاريخ بما هو بحث في معنى التاريخ ومساره، وهو ما بينه بجلاء الفيلسوف كارل بوبر في كتابه أسطورة الإطار (2003)، وإنما تهتم بإبستمولوجيا التاريخ كما يظهر.

على سبيل المثال لا الحصر. في أعمال ارنست كاسيرر في كتابه فكرة التاريخ (1988)، أو في أعمال بول ريكور الجديد. وأنه إذا كان هنالك فلاسفة معاصرون يهتمون بالمستقبل، كما يظهر ذلك جلياً في أعمال فلاسف وخصوصاً في كتابه الذاكرة التاريخ النسيان (2003). أو أعمال مدرسة الحوليات التاريخية الفرنسية أو التاريخ أمثال يورغن هابرماس وهانز يوناس وريتشارد روزتي فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن هذا الاهتمام تابع من قراءتهم للمعرفة العلمية المعاصرة، وبخاصة تلك المتعلقة بعلوم الأحياء، والهندسة الوراثية تحديداً، والثورة التقنية وأثرها على الإنسان والمجتمع والبيئة، وطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الذي رسمه الإنسان المعاصر، وأدى إلى اعتبار المستقبل موضوعاً أساسياً في الفلسفة وبعداً من أبعاد التفلسف المعاصر. يؤكد ذلك ما سبقت الإشارة إليه من اهتمام بفكرة التعقيد والهشاشة، وما تطرحه التحولات العلمية والتقنية من تحديات، وما يفرضه النظام السياسي والاجتماعي القائم من إكراهات وتهديدات، وبخاصة ما يتعلق بالأمن والسلم العالمين في ظل الرعب النووي» الذي تحياه البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك كله يؤدي إلى نتيجة أساسية، ألا وهي أن مستقبل الإنسان محكوم بما ينجزه في الحاضر، وبمدى إدراكه للمخاطر التي تحيط به، وأن ما حققه من تقدم علمي وتقني، يعرض عليه التزود بالفكر النقدي لمعرفة حدود هذا التقدم ومخاطره، وأنه إذا كانت المعرفة العلمية هي الرهان الأمثل لصنع مستقبل آمن، فإن ما يجب الإقرار به هو أن هذا التقدم ليس بالضرورة تقدماً خطياً وتصاعدياً وإيجابياً، وقادراً على حل كل المشكلات التي تواجهها البشرية، وإنما التقدم يكمن في قدرتنا على حل المشكلات المطروحة علينا، وذلك من خلال تعزيز قيمة النقد في تحليلنا وتوقعنا للأحداث والوقائع القائمة والمقبلة، وهو ما يعني بالضرورة الحاجة الدائمة إلى الفلسفة، بما هي تفكير نقدي في أحوالنا الآتية ومآلاتنا المقبلة.