في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم الرقمي، لم يعد من الممكن الحديث عن الكتاب دون التطرق إلى الذكاء الاصطناعي، الذي تسلل إلى حقول الكتابة والنشر والتأليف، بل وبدأ يزاحم الكاتب نفسه في عملية الإبداع. فهل نحن أمام نهاية الكتاب كما عرفناه؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون لحظة تحوّل، يُعاد فيها تشكيل العلاقة بين الإنسان والآلة، بين الحبر والخوارزمية، بين التجربة البشرية البطيئة والفكر الاصطناعي المتسارع؟
منذ آلاف السنين، كان الكتاب بمثابة مخزن الذاكرة الجماعية للإنسانية. ومنذ نقش الإنسان الأول حروفه على الطين، لم يتوقف عن الكتابة لأنه كان بحاجة إلى معنى، إلى تخليد لحظة، إلى تفسير غموض العالم من حوله. لكننا اليوم نعيش زمناً مختلفاً؛ زمناً يمكن فيه لخوارزمية مدرّبة أن تكتب مقالاً، قصة، بل وحتى رواية كاملة تحاكي الأسلوب البشري بشكل يربك القارئ.
غير أن هذا الانبهار يجب أن لا يعمينا عن التفريق الجوهري بين الكتابة كفعل وجودي، والكتابة كمنتج رقمي. فالآلة تكتب لأنها مبرمجة على الكتابة، لكنها لا تخشى الموت، ولا تحب، ولا تنكسر، ولا تسافر عبر الزمن حين تمسك بقلم. الإنسان وحده من يفعل. وما يجعل من الكتاب كتاباً، ليس فقط الكلمات، بل الوجدان المتسرّب من بين السطور، والرؤية الفريدة التي يحملها كل كاتب.
الذكاء الاصطناعي ليس نقيضاً للكتاب، بل قد يكون أحد أعظم حلفائه إذا ما تم توجيهه بشكل خلاق. تخيّلوا أدوات ذكية تساعد الكاتب على جمع المراجع، تحليل السياقات، تصحيح الأسلوب، أو حتى محاكاة شخصيات تاريخية لإجراء حوارات افتراضية معها. هذه ليست أوهاماً، بل تطبيقات واقعية بدأنا نراها في العديد من البرمجيات المتطورة. إنها لا تستبدل الكاتب، بل تُعزز من قدراته، تفتح له أبواباً جديدة للتخييل، وتمنحه وقتاً أكبر للتركيز على جوهر الإبداع.
لكنّ المسألة ليست تقنية فقط، بل أخلاقية وفكرية أيضاً. من يمتلك النص الذي تكتبه آلة؟ هل يمكن اعتبار ما تنتجه الذكاء الاصطناعي “أدباً”؟ هل يجب أن يُدرّس؟ يُمنح الجوائز؟ ثم ماذا عن الكاتب الذي يجد نفسه فجأة في منافسة غير متكافئة مع آلة لا تعرف التعب؟
علينا أن نعيد التفكير في مفاهيم الملكية الفكرية، والحقوق الأدبية، ومعايير التقييم النقدي، لأننا لم نعد نعيش في عالم الثنائيات القديمة. الذكاء الاصطناعي هو مرآة لقدراتنا، لكنه أيضاً اختبار لأخلاقنا، ومجهر يضخّم هشاشتنا المعرفية والثقافية.
ومع كل هذا، لا يمكننا تجاهل أن الأجيال الجديدة باتت تقرأ وتكتب وتتفاعل مع المحتوى بطرق مغايرة تماماً لما اعتدناه. الشاشة تحل مكان الورق، والفيديو يتفوّق على النص، والخوارزميات تحدد ما نقرأه بناءً على تفضيلاتنا المعلَنة وغير المعلَنة. في هذا السياق، يصبح الكتاب الورقي فعلاً شبه مقاوم، كأنه إعلان هادئ بأن الإنسان ما زال متمسكاً بلحظة تأمل، ببطء القراءة، بلمس الصفحات، وبالانفراد بالمعنى.
فهل نحافظ على الكتاب كما هو؟ أم نعيد اختراعه؟ لعل الجواب لا يكمن في الحنين إلى الماضي، ولا في الارتماء الأعمى في حضن المستقبل، بل في التوفيق بين الاثنين: كتابٌ يستفيد من أدوات الذكاء الاصطناعي، دون أن يفقد روحه الإنسانية.
ما نحتاجه اليوم ليس الدفاع عن الكتاب ككائن مهدد بالانقراض، بل الدفع به نحو عوالم جديدة، أكثر تفاعلاً، أكثر ديمقراطية، وأكثر قدرة على الصمود في وجه التسطيح المعرفي. نحتاج إلى كتّاب لا يخشون الخوارزميات، بل يتقنون استخدامها. إلى ناشرين لا يغلقون أبوابهم أمام الابتكار، بل يوسّعون رؤاهم. وإلى قرّاء لا يبحثون فقط عن المتعة، بل عن المعنى، عن الأسئلة التي لا تجيب عنها الآلة.
الكتاب لن يموت. لكنه سيتحوّل. ومهمتنا الآن ليست الحفاظ عليه كما هو، بل تخيّله كما يجب أن يكون.