No Widgets found in the Sidebar
المعنى كأصل ثقافي: تونس في مواجهة السوق المفتوح

في عالم باتت فيه السوق تُهيمن على كل شيء، من الغذاء إلى الفن، تطرح الثقافة سؤالًا وجوديًا: ما جدوى المعنى في زمن تُقاس فيه القيمة بما يُباع ويُشترى؟

في تونس، كما في بقية دول الجنوب، لا يمكن الحديث عن مستقبل دون التوقف أمام المعنى الثقافي للمشاركة. ليس الأمر مجرّد شعارات تتغنى بـ”التنوع الثقافي” أو برامج تنموية ترفيّة تُلحق الثقافة بذيول الاقتصاد، بل عن جوهر العلاقة بين الإنسان ومحيطه، بين الذاكرة والخيال، بين الإرث والابتكار.

المشاركة الثقافية لا تعني فقط حضور عروض مسرحية أو ارتياد المتاحف. إنها انخراط الفرد والجماعة في عملية إنتاج الرموز والمعاني التي تعرّفهم وتحرّرهم. هي الحق في التعبير، في التمثيل، في التأويل. هي مشاركة في “اقتصاد المعنى”، حيث لا تُقاس القيمة بعدد المشاهدات أو عدد المتابعين، بل بعمق الأثر واتساع التأثير.

في عصر “الترند” و”المحتوى السريع”، تصبح الثقافة نفسها عُرضة للابتلاع. تُضغط إلى مقاطع قصيرة، تُسطح إلى شعارات، وتُستثمر لتصبح “منتجًا” يُباع في المعارض الدولية والمهرجانات. فكيف نحافظ على بعدها التحرري؟ وكيف نُفعّل إمكانياتها التمكينية؟

تونس بعد الثورة قدّمت نموذجًا فريدًا من حيث انفجار التعبير وتعدد الأصوات. من مسارح الشوارع إلى الجرافيتي، ومن البودكاست السياسي إلى المبادرات النسوية، تكاثرت أشكال المشاركة الثقافية وكأن البلاد استعادت صوتها الدفين. لكن ماذا حدث بعدها؟ هل تحوّلت هذه الديناميات إلى سياسات مستدامة؟ هل تم احتضانها داخل استراتيجية وطنية؟ أم أنها تآكلت تدريجيًا أمام خطاب السوق و”الريادة” و”الابتكار” كما يُسوَّق له من مؤسسات التمويل الدولي؟

الحديث عن تمكين المجتمعات عبر الثقافة لا يمكن أن يُختزل في توزيع المنح أو بناء مراكز ثقافية. التمكين الثقافي هو تفكيك لبُنى الهيمنة الرمزية. هو دعم للهويات المهمّشة، وإعادة الاعتبار للروايات البديلة، وتمكين الشباب ليس فقط من التعبير، بل من التأثير في السياسات العامة.

هنا يطرح السؤال نفسه: هل نحن بصدد بناء اقتصاد ثقافي ينبني على دعم الإبداع كقيمة مضافة مجتمعية؟ أم أننا نُعيد تدوير اقتصاد السوق في ثوب ثقافي؟

في الاقتصاد الثقافي الحقيقي، يُنظر للفنان والمثقف كفاعل مدني، لا كصانع محتوى. تُعامل الثقافة كحق، لا كترف. يُستثمر في المعنى، لا فقط في الشكل.

ما الذي نحتاجه اليوم؟

نحتاج أولًا إلى إرادة سياسية ترى في الثقافة أداة للتغيير، لا واجهة دعائية. نحتاج إلى مؤسسات تُعيد توزيع السلطة الرمزية، وتفتح المجال لثقافات المهمّشين، ولأصوات الضواحي، ولخيال الشباب. نحتاج إلى رؤية تنموية تُدرج الثقافة كعنصر أساسي في الصحة النفسية، في التربية، في الاقتصاد المحلي.

صحيح أن الثقافة تُسلّي، لكنها أيضًا تُحرّر. والسؤال الحقيقي هو: هل نريد مجتمعات تستهلك الثقافة كما تستهلك الوجبات السريعة؟ أم نريد مجتمعات تُنتج المعنى وتُعيد بناء علاقتها بالزمن والمكان والآخر؟

ربما حان الوقت للحديث عن ثورة ثقافية ناعمة في تونس، لا تقوم على الانقلاب، بل على التسلّل. ثورة تبدأ من القصص الشخصية، من مسارح الحي، من نصوص تُقرأ بصوت مرتفع في المقاهي، من أطفال يُعلَّمون التعبير قبل الحساب.

لأن المعنى لا يُباع ولا يُشترى. لكنه وحده ما يجعل العيش ممكنًا.