في أحد أروقة مستشفى الرابطة بتونس، يقف أحمد* (اسم مستعار) متردداً، يحمل بين يديه أوراقه التي سرعان ما أضرم فيها النار بعد خروجه من المستشفى . أخبرنا أحمد أن سبب قدومه للمستشفى هو البحث عن دواء PrEP، الدواء الوقائي من فيروس نقص المناعة المكتسبة( الوقاية قبل التعّرض) ، لكنه وجد نفسه في مواجهة نظام صحي لا يوفر له الدواء فحسب، بل يثقل كاهله بصدمات نفسية واجتماعية. لم تكن رحلته مجرد بحث عن علاج، بل صراع مع وصمة اجتماعية تخيفه أكثر من المرض ذاته.
قصة أحمد* ليست حالة فردية، بل تعكس واقع آلاف التونسيين الذين يفتقرون إلى المعرفة والدعم في سبيل الحصول على حقهم في الوقاية. في مجتمع لا يزال يجهل هذه العلاجات أو ينظر إليها بريبة، حيث أصبحت رحلة الوصول إلى الوقاية معركة من نوع آخر.
77% من الشباب التونسي يجهلون وجود علاج وقائي فعال
كشف
بحث ميداني أجرته شبكة المثقفين الأقران الشباب
Y-PEER، أشرف عليه مثقف أقران في الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، شمل 180 شاباً تونسياً تتراوح أعمارهم بين 15 و35 سنة، عن واقع مقلق حيث أن 77% منهم لا يعرفون شيئاً عن دواء PrEP ( الوقاية قبل التعّرض) وPEP (الوقاية بعد التعّرض) رغم أن هذه الأدوية معترف بها عالمياً كوسائل فعالة للوقاية من فيروس نقص المناعة.
ويشير البحث إلى أن هذا الجهل لا يعكس فقط نقص المعلومات، بل يكشف عن قصور في الحملات التوعوية التي لم تصل إلى الجمهور المستهدف بشكل فعال. “معظم المشاركين كانوا قد سمعوا عن الموضوع من قبل، لكن المعلومة لم تتغلغل أو تُفهم بشكل صحيح، ما يجعل نسبة الجهل الحقيقية في المجتمع أكبر مما تظهره الدراسة”،حسب ما وضحته شبكة Y-PEER.
وفي هذا السياق أكد مدير البرنامج الوطني لمكافحة السيدا بالإدارة العامة للرعاية الصحية الأساسية بوزارة الصحة سمير مقراني في تصريح له بتاريخ ديسمبر 2024 لإحدى الإذاعات الخاصة وجود إستراتيجية وطنية لمكافحة فيروس نقص المناعة البشري انطلقت منذ سنة 2021 وتم تحينها لتتواصل إلى سنة 2026 عوضا عن 2025، في إطار مواكبة تطورات هذا الفيروس وطرق علاجه ومقاومته بالاشتراك مع الجمعيات العاملة في المجال والأشخاص المتعايشين مع المرض والمنظمات الأممية.
وأضاف نفس المصدرأن هناك توقعات بوجود 8 ألاف شخص حامل لفيروس نقص المناعة البشري في تونس، مشيرا إلى أن الكثير قد لا يكون على علم بإصابته بالفيروس، مبرزا أن هناك متابعة لعلاج 23 حالة لامرأة حامل موضحا أن من بين الـ430 حالة المسجلة خلال سنة 2023 هناك 25 بالمائة إصابتهم بالفيروس متقدمة، مؤكدا أن أقسام العلاج تقوم بعمل جبار لتقديم العلاج لحاملي الفيروس .
تحديات الوصول إلى العلاج
الوصول إلى علاجات فيروس نقص المناعة البشري يظل تحديًا كبيرًا في تونس. حيث تعاني المنظومة الصحية من صعوبة الاستجابة للاحتياجات نظرا لأن عدد المراكز الصحية المختصة لا يتجاوز الأربعة فقط وهي تقع في تونس العاصمة وسوسة وصفاقس والمنستير. وتبقى فحوصات التقصّي محدودة، والتغطية العلاجية غير كافية، ومخزون الأدوية ينقطع باستمرار، والبنى التحتية لا تلائم الفئات المعنية.
فرغم أن 69% من المشاركين في الإستبيان الذي نظمته شبكة أقران يعرفون أن العلاج متوفر مجاناً في تونس، إلا أن الحصول عليه يظل معقداً ومحدوداً ما يجعل رحلة الحصول عليه صعبة، خاصة لمن يعيشون خارج المناطق التي سبق ذكرها.
الأمر لا يقتصر على الجانب الجغرافي فقط، إذ يفضل 70% من المشاركين الحصول على العلاج من مصادر أخرى مثل الجمعيات أو الصيدليات، بحثاً عن بيئة أكثر أماناً نفسياً واجتماعياً بعيداً عن وصمة العار المرتبطة بالمستشفيات الحكومية.
ورغم تواجد القانون عدد 71 لسنة 1992 مؤرخ في 27 جويلية 1992 المتعلق بالأمراض السارية والذي ينص على حماية حقوق المصابين بالفيروس وتقديم الرعاية اللازمة لهم إلا أن التطبيق الفعلي لهذا القانون مازال يواجه عدة تحديات تتعلق بحقوق الإنسان. في تونس، ورغم جهود الجمعيات وبرنامج الأمم المتحدة المشترك بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، يظل الإطار القانوني والمؤسساتي غير ملائم لمواجهة خصوصيات هذا الفيروس واحتياجات الفئات الأكثر هشاشة.
تقول سارة* (اسم مستعار ) والحزن قد استولى على محياها، وهي شابة في العشرينات، تروي مشاعر القلق وعدم الراحة التي يواجهها كثيرون عند طلب العلاج. : “لم أحب أن يطرحوا عليّ الكثير من الأسئلة، أفهم ذلك، لكن ذلك لم يجعلني أشعر بالراحة، خاصة عندما أخذوا بطاقتي الشخصية.” وتضيف بحسرة: “أعتقد أن الدواء المتوفر هو PEP فقط، وهذا ما يعطونه للمرضى حتى الذين تعرضوا لمخاطر أو حوادث، لا أظن أن لديهم PrEP.”
تعكس هذه الكلمات حاجز الخوف والوصمة الاجتماعية التي تدفع الكثيرين إلى التردد أو حتى التخلي عن طلب الوقاية.
وصمة اجتماعية تعمق ازمة الوصول الى العلاج
تتجاوز تحديات الوقاية من فيروس نقص المناعة الجانب العلاجي لتصل إلى أبعاد اجتماعية وثقافية عميقة تعيق استفادة الناس من العلاجات الوقائية. حيث أن كثيرا من الأشخاص يخلطون بين الوقاية والعلاج، إذ يظنون أن استخدام دواء PrEP يعني الإصابة بالفيروس، وهذا الاعتقاد الخاطئ يخلق وصمة اجتماعية قوية تمنعهم من طلب الدواء خوفاً من أن يُنظر إليهم كمصابين أو مصابين محتملين.
بالإضافة إلى ذلك، ترتبط هذه الأدوية في أذهان البعض بسلوكيات “منحرفة” أو غير مقبولة اجتماعياً، مما يزيد من شعورهم بالوصمة والتمييز.
مما يجعل هذه التصورات المغلوطة تعزز من عزلة الأشخاص وتجعلهم يترددون في البحث عن الوقاية التي هي حقهم.
كما أن ثقافة الصمت التي تسود حتى في الأوساط الطبية والإعلامية، وتجنب الحديث المباشر والصريح عن هذه الوسائل الوقائية أو تناولها بشكل سطحي، تزيد من عمق المشكلة، إذ تعمّق الجهل وتكرس الوصمة، مما يحول دون نشر الوعي الصحيح ويحول دون وصول الخدمات الوقائية إلى من يحتاجها فعلاً.
أمل متجدد: 88% من الشباب يؤمنون بفعالية الوقاية بعد التوعية
رغم كل التحديات، تظهر المعاينة الميدانية التي أجرتها الشبكة جانباً مشرقاً فبعد شرح طبيعة هذه العلاجات، اعتبر 88% من المشاركين في المعاينة وإستطلاع الرأي أنها مفيدة وضرورية، مما يؤكد أن المشكلة ليست رفض المجتمع للعلاج، بل نقص المعلومات الصحيحة والوصول الآمن.
حيث أكدت شبكة Y-PEER: أن الوقاية حق مشروع لكل إنسان، وPrEP وPEP أدوات مهمة لإنقاذ الأرواح ويجدر بنا كفاعلين في المجتمع كسر حاجز الخوف وتقريب المعلومة والخدمة من الناس بكل احترام وشمولية وإنسانية.”
توصي شبكة Y-PEER بناءً على نتائج الدراسة وتجارب الأشخاص، بوضع خريطة طريق واضحة متعددة المستويات لتحسين واقع الوقاية من فيروس نقص المناعة في تونس. فعلى المستوى الفوري، يجب التركيز على تدريب الكوادر الطبية على التعامل الإنساني مع المرضى، بما يحفظ كرامتهم ويخفف من وصمة العار المرتبطة بطلب العلاج، إلى جانب توسيع نقاط تقديم العلاج لتشمل مستوصفات ومراكز صحية في مختلف الجهات لتسهيل الوصول، مع تبسيط الإجراءات الإدارية وضمان الخصوصية التامة للمستفيدين.
أما على المستوى المتوسط، فتدعو الشبكة إلى إطلاق حملات توعوية شاملة تستهدف الجمهور العام وليس فقط الفئات المعرضة للخطر، مع الاستفادة من وسائل الإعلام المتنوعة لإشراكها في تغيير الخطاب من الوصم إلى التوعية، بالإضافة إلى تعزيز دور الجمعيات والمنظمات المدنية في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمرافقة للمستفيدين.
وعلى المستوى الاستراتيجي، تؤكد الشبكة ضرورة إدماج خدمات الوقاية ضمن منظومة الصحة الوطنية كحق مشروع لجميع المواطنين، مع تطوير سياسات عامة تضمن توزيعاً عادلاً وشفافاً للعلاجات الوقائية، وخلق شراكات مستدامة بين القطاع العام والمجتمع المدني لتعزيز الوعي وتسهيل وصول الجميع إلى هذه الخدمات الحيوية.
قصة أحمد* وسارة* ليستا مجرد حكايات فردية، بل تعكسان واقعاً يحتاج إلى تغيير جذري. في زمن يتطور فيه الطب، لا يمكن أن نترك أشخاصاً يحترقون خوفاً من وصمة اجتماعية أو يشعرون بالإهانة خلال تلقي العلاج .
الوقاية من فيروس نقص المناعة ليست مجرد خدمة طبية، بل حق أساسي من حقوق الإنسان، يتطلب جهداً جماعياً من الجميع: أطباء،إعلام ، مجتمع مدني ، نشطاء، وصناع قرار.