تنبيه: نظرا لحساسية الشهادات الواردة في هذا التحقيق وخصوصيّة أصحابها، فقد أطلقنا عليها أسماء مستعارة، وقمنا بتغيير الصوت بهدف حماية هوّيتها
“أكثر ما يقلقني هو نفاق أولئك الذين يدّعون رفضهم للمثلية، وفي الوقت نفسه يتحرشون بنا…” هكذا عبّر لنا أحد أفراد مجتمع “الميم عين”، عن قرفه من النفاق الاجتماعي والصراع الذي يخوضه يوميّا ضدّ ممارسات وترسّبات مجتمعيّة راسخة، وتناقضات قانونيّة واجتماعية وحقوقية صارخة.
رغم ما يبدو من تطوّر شكلي في المشهد الحقوقي التونسي، لا يزال أفراد مجتمع “الميم عين” (+LGBTQ) يواجهون تهميشًا ممنهجًا على كافة المستويات، من القانون إلى المجتمع، ومن الأسرة إلى المؤسسات الصحية. فالإقصاء هنا ليس مجرّد اختلاف في وجهات النظر، بل هو قطيعة كاملة تضع هذه الفئة في مواجهة يومية مع الوصم، التمييز، والانتهاكات التي تصل إلى حدّ التجريم القانوني.
ومجتمع “الميم عين” (LGBTQ)، وهو اختصار يشير إلى المثليين والمثليات ومزدوجي/ات الميل الجنسي والمتحولين/ات جندريًا، بالإضافة إلى الهويات الجندرية والجنسية الأخرى التي لا تتطابق مع الأنماط التقليدية السائدة. ويمثل مجتمع “الميم عين” فئة متنوعة من الأفراد يجمعهم اختلافهم في التوجه الجنسي أو الهوية الجندرية. هذا المجتمع يُعدّ جزءًا لا يتجزأ من النسيج الإنساني، أفراده يعبّرون عن أنفسهم بطرق متعددة تعكس تنوعهم الثقافي والفردي. ورغم أنهم يواجهون تحديات كبيرة في العديد من المجتمعات، مثل التمييز، الإقصاء، والعنف الممنهج، إلا أن كفاحهم مستمر من أجل الاعتراف القانوني والاجتماعي واحترام الحقوق الفردية، والكرامة الإنسانية، والمساواة في المواطنة
ما هو مجتمع “الميم عين”؟ فيديو تفسيري
أمّا من الناحية القانونيّة، فإنّ مصطلح “مجتمع الميم عين” غير مستعمل في تونس، كما يوضح الدكتور في القانون العام أيمن الزغدودي، منوّها إلى أن المصطلحات المستعملة في المدوّنة القانونيّة والقضائية التونسية هي “المثليّون” و”المثليّات” أو “المثليّة الجنسيّة” أو “الأقلّيات الجنسيّة”. ويعرّفهم الزغدودي كمجموعة من الأشخاص لديهم ميول جنسيّة مثليّة أو عابرة جندريّا.
وتختلف تعريفات مجتمع “الميم عين” حتّى بين أفراده من شخص لأخر. فأحمد مثلا، وهو يعتبر نفسه غير ثنائي (Non-Binaire، هم الأشخاص الذين لا يصنفون أنفسهم ذكورا ولا إناثا، أو يشعرون انهم يجمعون بين الجنسين) يعرّف مجتمعه على أساس أنه مجموعة من الأفراد الذين تختلف وتتنوع هوياتهم الجندرية وميولاتهم الجنسية بعيدا عن التصنيفات التقليدية.
يقول أحمد: “بدأت بالتعرف على هويتي الجندرية في فترة الطفولة، ولم أتمكن من فهم من أنا بالتحديد. لكن فيما بعد تفطنت أنني لا يمكن أن أكون “لا هذا ولا ذاك”.. في سنّ 16-17 سنة. كان من الصعب عليّ العيش في المجتمع التونسي بهوية مغايرة، لان ذلك يعرّضني للعديد من المشاكل”.
عاش أحمد سنوات دراسة سيئة جدا، عرف خلالها الكثير من الإقصاء والنبذ. لكنه يقول:”من الممكن أن اختلاف شخصيتي هو ما مكّنني من تجاوز ما يقال، والتركيز على الدراسة. وبحكم كون علاقتي الملتبسة مع هويتي دفعتني للاطلاع والقراءة أكثر حولها وتوسيع معارفي حول الموضوع، فقد خلق هذا تصالحا واعترافا داخليّا بذاتي، وساهم في قبولي لنفسي قبل قبول الآخر لي.”
ويضيف أحمد: ‘أما على المستوى العائلي، فلا يمكنني اعتبار أن عائلتي قابلة للفكرة تماما ولا رافضة لها تماما، وبالمعنى التونسي يقولون لي: ‘ما تضوّيش خليك هكاكا. ما تحكيلناش، اما هانا حاسين بيك’ (لا تفصح عن نفسك، ابق هكذا، لا تخبرنا، لكن نحن نشعر بك)“
‘ما تضوّيش خليك هكاكا. ما تحكيلناش، اما هانا حاسين بيك’ (لا تفصح عن نفسك، ابق هكذا، لا تخبرنا، لكن نحن نشعر بك)” أحمد (اسم مستعار) |
من جانبها فضلت سلمى ان تخفي هويتها وميولاتها الجنسية عن عائلتها، خوفا من ردّ فعلهم أو أن تتسبب لهم في القلق والألم. وحتى اختيارها لأصدقائها كان دقيقا جدا حسب تعبيرها:” لأنه عندما تكون مختلف،ا ستحارب من أجل خلق فضاء آمن يمكنك مشاركة معاناتك فيه بكل أريحية. العمل من أجل تشكيل مجموعة من الأصدقاء المتفهمين لوضعيّتي ويمكنني الاعتماد عليهم، كان من أهم المراحل في حياتي. ولكن في المقابل، تعرضت لبعض المواقف السّيئة مع أشخاص في الفضاء الجامعي، يدّعون تفهم وضعيتي، ثمّ يقولون لي اذهبي للطبيب لتلقّي العلاج.”
وتلاحظ سلمى أن هناك أشخاصا قد يوصلهم التنمر أو رفض الآخرين لهم إلى نهايات فظيعة. تقول:”بعض الأصدقاء الذين أحبهم أقدموا على الانتحار، لأنهم لم يجدوا راحتهم النفسية وحقهم في الحياة في المجتمع، هذه الأشياء جعلتني انظر بريبة لهذا المجتمع.”
معاناة نفسيّة: الجحيم هو الآخر
ويشغل التمييز حيّزا هامّا من المعاناة اليومية التي يعيشها مجتمع “الميم عين” في تونس، خاصة على المستوى النفسي نظرا للضغوطات الكبيرة التي يتعرّض لها أفراد هذا المجتمع، وتتضمن الشعور بالقلق والخوف المستمر من الرفض الاجتماعي، وعدم القدرة على التعبير عن هويتهم الجندرية أو الجنسية بكل حرية. والعنف اللفظي من إهانات وشتائم مستمرة من طرف المحيطين بهم، وخاصة المتأتية من العائلة والأشخاص المقربين، إذ تترك آثارا أعمق في نفسيتهم.
يرى الخبير النفسي والجنسي أنس العويني أن المجتمع التونسي لا يقبل مجتمع “الميم عين” ولا يقبل الاختلافات. ويقف ضد العبور الجنسي وممارسة الجنس مع نفس الفئة.
وهذا الرفض لا ينبع، حسب الخبير، من منطلق ديني، لأن المجتمع التونسي يقبل العديد من الأشياء المحرمة في الإسلام ويتعامل معها بشكل طبيعي، لكن اجتماعيا يرفض كل من ينتمون الى مجتمع “الميم عين”. رغم أنه يقبل العلاقة بين المرأة والرجل خارج إطار الزواج، ويقبل العديد من الأشياء المحرمة في الدين وهذه صفات مجتمعية بالأساس.
أنس العويني – مختصّ نفسي/جنسي
ويؤيّد تحليل البيانات الذي اعتمدناه عن مشروع “نقاط ضدّ التمييز”، ما ذهب له الخبير أنس العويني. إذ توضح الدراسة المجراة في 2020 أن أكثر من 81% من حالات التمييز التي يتعرّض لها أفراد مجتمع “الميم عين” هي نفسيّة، وبدرجة أقلّ لفظيّة. لكنّ التمييز الجسدي والمضايقات والتمييز الاقتصادي تأخذ أبعادا هامّة في مجتمع “الميم عين” إذ تتراوح بين قرابة 40% بالنسبة للتمييز الاقتصادي و47.5% بالنسبة للتمييز الجسدي.
وتشير الدراسة من جهة أخرى إلى أن الحالات القصوويّة، مثل الاغتصاب والملاحقة والعزل القسري والابتزاز والتهديد لا تتجاوز نسبها 10%، رغم توثيق حالات لهذه الممارسات.
التحديات الصحية لمجتمع “الميم عين” في تونس
يمثّل الولوج إلى الصحّة، والذي هو أحد أبسط وأوكد الحقوق المواطنيّة، رحلة جحيميّة بالنسبة لأفراد مجتمع “الميم عين”. تتحدث سلمى عن أكثر صعوبات التي يتعرض لها مجتمع “الميم عين” وبالتحديد العابرين والعابرات في موضوع الخدمات الصحية، و مدى صعوبة مواصلة العبور الجندري في تونس. فتقول :” اليوم لا يستطيع هؤلاء العابرون أن ينهوا عبورهم الجندري في تونس، أي لا يستطيعون الذهاب الى المستشفى، وليس لديهم إمكانية الحصول على الهرمونات اللازمة والدواء الضروري والكثير من المستلزمات الاخرى. في المقابل تستطيع الذهاب للمستشفى لرؤية مختص نفسي تصف له حالتك ويقدم لك النصائح الضرورية..”
‘كعابر بصفة عامة لا أستطيع الذهاب للمستشفى لاستكمال العبور. إذ أنّ هناك مشكلا”
سلمى (اسم مستعار) |
وتضيف سلمى أن هناك الكثير من الأطباء الذين يحاولون المساعدة من قريب أو من بعيد في جمعيات او المنتسبين للقطاع الخاص لكن، تضيف: “أنا اليوم كعابر بصفة عامة لا أستطيع الذهاب لاستكمال العبور إذ أنّ هناك مشكلا حيث لا استطيع المداواة في مصحّاتنا العمومية التي قالوا لنا أنها مجانية وللعموم، اليوم لا نستطيع الذهاب إليها للتداوي واستكمال عبورنا.”
سلمى – عابرة جنسية (اسم مستعار)
وضع حقوقي متدهور
يعاني مجتمع “الميم عين” من وضع حقوقي متدهور في تونس، يعكس انتهاكات عديدة لحقوقهم المدنية والاجتماعية. وتقدّم سلمى هنا مثالا عن الصعوبات التي يتعرّض لها أفراد هذا المجتمع خاصّة في ما يتعلّق بالأوراق الثبوتية في تونس. فتقول:” المشكل هنا في الأوراق الثبوتية. مثلا أنا ولدت حسام. لكن انا لست حسام، ولا أشعر أنني حسام. وقمت بالعبور وأصبح اسمي “كذا”. لكن، في الأوراق الرسمية والأوراق الثبوتية إسمي ليس “كذا”. بالنسبة للمجتمع اسمي ما يزال حسام. وحتى وأنا امرأة بكامل المواصفات، مازال مجتمعي يعتبرني حسام والدولة كذلك.”
في تونس، لا يوجد إطار قانوني يحمي حقوق مجتمع “الميم عين” من التمييز الذي يتعرّض له أفراده في مجالات العمل والتعليم والرعاية الصحية، وفي ذلك حرمان لهم من تساوي الفرص مع باقي أفراد المجتمع. بالنتيجة، يصبح أفراد مجتمع “الميم عين” مجبرين على إخفاء هويتهم الحقيقة وكأن المجاهرة بها جريمة.
ورغم أنّ التصنيف الجندري جاء ليحمي هذه الفئة الأقلّية من الناس، كما يرى أيمن الزغدودي، إلاّ أنّ الواقع التونسي يظهر عكس ذلك. يقول الزغدودي: “يكفي أن يظهر في المجتمع كإنسان مثلي أو مثلية أو عابر جندرياً أو مزدوج الجنس، ليجد نفسه يتعرض للوصم المجتمعي، وللإيقافت البوليسية، حتى إذا أراد التمتّع بالخدمات الصحية، ويرون أنه لديه ميولات مثل هذه، لا يتعاملون معه ويحرمونه من الخدمات الصحية، وإذا أراد مثلاً التمتع بالمرافق العادية مثل المقهى أو المطعم يتعرض الوصم. وحتى حين يتعرض للتحرج الجنسي الاغتصاب في علاقة بهويته الجنسية، ويتقدّم ليشتكي للأمن، يمكن أن يتعرض لنوع من الهرسلة، كأن يقال له لماذا تفعل هذا بنفسك؟ إلى غير ذلك. طبعاً التصنيف هذا متاعهم. طبعا فكرة التصنيف الجندري جاءت من أجل حمايتهم، لكن على مستوى الواقع، عندما يظهر في المجتمع هويته الجنسية، قد يتعرض لعديد الانتهاكات“.
ويمنع القانون التونسي ممارسة اللواط أو المساحقة من خلال الفصل 230 من المجلة الجزائية (يعاقب مرتكبه بالسجن مدة ثلاثة أعوام).
يؤكد شادي الطرفي، عضو الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مكلف بالتكوين وثقافة حقوق الإنسان، على أن هناك تمييز وتضييقات إزاء المثليات والمثلين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين في القانون والممارسة اليومية.
ويشرح الطرفي أنّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تتابع جميع الانتهاكات المتعلقة بهذه الفئة من خلال التضيقات اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو مع باحث البداية، وكذلك في السجون، من خلال توفير الإعانة العدلية واثارة القضايا في حق الضحايا، إضافة الى الإحاطة النفسية والاجتماعية.
ويقول الطرفي أن الرابطة تعمل مع عدة ائتلافات من أجل الإحاطة النفسية للفئات الهشة من خلال توفير الاخصائيين النفسيين وتوفير بعض المساعدات الاجتماعية، وكذلك من جانب أخر تسهيل التمتّع بالحق في الصحة عبر إزالة بعض العقبات. وتعمل في نفس الوقت منذ فترة ضمن استراتيجية التقارير الدولية، خاصّة منها اللجنة الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وآلية الاستعراض الطوعي الشامل، واتفاقية مناهضة التعذيب، وغيرها من الآليّات وذلك بهدف إلغاء الفصل 230 من المجلة الجزائية، والتعجيل بتحسين وضعية أفراد مجتمع “الميم عين” الاجتماعية وحمايتهم من خلال تطوير برامج التوعية العامة.
السجن المسلّط على رقابهم
ينصّ الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة، المذكور أعلاه على “اللواط أو المساحقة إذا لم يكن داخلا في أي صورة من الصور المقرّرة بالفصول المتقدّمة يعاقب مرتكبه”. والصّور المقرّرة في الفصول أعلاه هي أحكام تشديد للعقاب، في حال وقوع الفعل على قاصر مثلا، أو كان مرتكب الفعل من أصول “المجني عليه” من أي طبقة أو كانت لهم السلطة عليه أو كانوا معلميه أو خدمته أو أطباءه أو جراحيه أو أطباءه للأسنان أو كان الاعتداء بإعانة عدة أشخاص… وتتواتر الفصول المشدّدة للعقاب في المجلّة الجزائيّة، رغم تناقضها الصارخ مع دستوري 2014 و2022 الذين يكفلان الحريات والحقوق الفرديّة.
وينصّ الباب الثاني من دستور 2022، في الفصل 22: “تضمن الدّولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحرّيات الفرديّة والعامّة وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم”، وفي الفصل التالي: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون دون أيّ تمييز”، وفي الفصل 25 “تحمي الدّولة كرامة الذّات البشريّة وحرمة الجسد، وتمنع التّعذيب المعنويّ والمادّي. ولا تسقط جريمة التّعذيب بالتّقادم”، ثمّ في الفصل 26 “حرّية الفرد مضمونة”.
ولا يختلف الباب الثاني من دستور 2014 عن الدستور الحالي في هذه التنصيصات والفصول.
وفي دراسة للجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية تحت عنوان “القضية 230″، كشفت أن القضاء التونسي، وانطلاقا من قراءة للأحكام الصادرة منذ 2015 والى غاية جانفي 2023، وطبقت الفصل 230 من المجلة الجزائية، “كان بصدد محاكمة الهويات الجنسانية لا بصدد محاكمة الأفعال”.
ومن أبرز التجاوزات المسجلة قضايا الفصل 230، حسب معدّي الدراسة، اعتماد استنطاق الجسد قسرا واعتباره مصدرا لتأكيد أو نفي التهم. حيث كان الفحص الشرجي حاضرا في مختلف القضايا بوصفه اختبارا فنيا يطلب من الطبيب الشرعي، وفي غالب الأحيان لا يتوفر جانب الرضا الكامل والموافقة على إجرائه من قبل المتّهمين، إلى جانب مخالفة هذه الممارسة للأخلاقيات الطبية و مساسها بالكرامة الإنسانية، حيث تعتبر الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب الفحوص الشرجية تعذيبا.
وبتحليل جدول البيانات الوارد في الدراسة، والخاصّ بمساجين الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة، على امتداد سنوات 2008 إلى 2020 (بيلنات 2021 لم تكن مكتملة في الدراسة)، يتّضح لنا أنّ عدد المساجين المحالين بموجب الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة ظلّ يتراوح بين 20 ألف و30 ألف سجين، طيلة أكثر من عشريّة. وهو رقم مرتفع للغاية.
تطور عدد القضايا المرتبطة بالفصل 230
ولا يعتمد القضاء التونسي على الفصل 230 من المجلة الجزائية وحده لملاحقة أفراد مجتمع الميم، بل يعتمد في كثير من الأحيان على جرائم أخرى مثل التجاهر بما ينافي الحياء والاعتداء على الأخلاق الحميدة وغيرها من الجرائم المضمّنة في التشريعات الزجرية التونسية.
الأصل في الأشياء أنّ التصنيف الجندري جاء ليحمي أفراد مجتمع الميم، إلاّ أن حقوقهم في المجتمع التونسي وحرّياتهم منتهكة”
أيمن الزغدودي – دكتور في القانون العام |
يقول الدكتور أيمن الزغدودي “إنّ الأصل في الأشياء أن التصنيف الجندري جاء ليوفّر لهؤلاء الأشخاص الحماية، لأنّ الواقع أثبت أنهم تعرّضوا لعدّة انتهاكات، وكونهم لا يتمتّعون بمبدأ المساواة وعدم التمييز. لكن في مجتمع مثل المجتمع التونسي، فإنّ حقوقهم وحرّيتهم مسلوبة“.
وبالنسبة للفصول المعتمدة في تجريم المثليّة، يقول الزغدودي، إنّ “أهمها هو الفصل 230 والفصلين 226 و 226 مكرر من المجلة الجزائية” مشيرا إلى أنّ اللجوء المنهجي لممارسة الفحص الشرجي للموقفين على خلفية المثليّة الجنسيّة، يعتبر تعذيبا وانتهاكا للحرمة الجسديّة التي تحميها المعاهدات الدولية والدساتير والقوانين.
يتمنّى أحمد أن تتغيّر الكثير من الأشياء مثل الفصل 230. حسب أحمد، يصبح الناس خائفين من الإدلاء بمعطياتهم الشخصية وبتعبيرهم الجندري خشية أن يجدوا أنفسهم خلف القضبان دون جريمة، سوى ممارسة الهويّة الجندرية او على خلفيّة المعطيات الشخصية المستخلصة من الهواتف والحواسيب، بشكل مخالف للقانون.
وتشاركه سلمى الرأي، معتبرة أن أهم ما يسمح بالتعايش بحرية، هو حذف القوانين التي تقمع حقوق الناس، على أساس هويتهم الجندرية أو تعبيرهم الجندري.
سلمى – عابرة جنسية (اسم مستعار)
رسميّا، تكذّب تونس في المحافل الدولية ملاحقتها القضائيّة للمثليين والمثليّات، حيث أنكرت خلال استعراض التقرير الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في فيفري 2023، الملاحقة القضائية على خلفية الهوية الجندرية. وقالت في ردها إنه منذ 2017، لم يتم تتبع سوى ثلاثة أشخاص بموجب الفصل 230، وأن هؤلاء الموقوفين والموقوفات لم يتم إخضاعهم للفحص الشرجي الذي وصفته أنه إجراء تعتمده تونس فقط لإثبات جريمة اغتصاب القصّر وليس لملاحقة المثليين.
هذا النفي، لا يصمد أمام البيانات والحالات الموثّقة من قبل المنظّمات الحقوقيّة، والتي استعرضنا بعضها أعلاه. في حين يبقى الوضع الداخلي رهين إرادة ووعي القضاة، وطريقتهم في تطبيق القانون. حتّى أنّ منظمة العفو الدولية أطلقت صرخة فزع في فيفري المنقضي، ناقلة عن جمعيّة “دمج من أجل العدالة والمساواة” أن عدد الاعتقالات بلغ ما بين 26 سبتمبر 2024 و31 جانفي 2025 (حوالي 4 أشهر) ما لا يقلّ عن 84 شخصا في مدن تونس والحمامات وسوسة والكاف، أغلبهم من المثليين والمثليات والعابرين والعابرات، قد تمّ إيقافهم بطريقة تعسّفيّة، على خلفية توجّهاتهم الجنسية أو هوياتهم الجندرية.
إقصاء اجتماعي لا متناهي
قد تكون المعاناة القانونية أو الصحّية، أخفّ وطأة من معاناة الإقصاء والنبذ الاجتماعي على أفراد مجتمع “الميم عين”.
وترى الأخصائية في علم الاجتماع صابرين الجلاصي بأن بالفضاء العام يخضع لمعايير اجتماعية وهي معايير قيمية وأخلاقية والأهم دينية، وكل ما هو خارج عن هذه المنظومة الثلاثية هو عبارة عن استفزاز للمتواجدين في الفضاء العام ومعرض للنبذ والوصم الاجتماعي وتصبح كل آليات العقاب مباحة. فالمجتمع مثلا لا يهتم إن كان ذلك الفرد المنتمي لمجتمع “الميم عين” هو “حالة مرضية او لا”، لأنه يقيّم الأشخاص حسب منظومة معايير يرجع لها فقط، وبالتالي سيراهم كتهديد للمنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع.
صابرين الجلاصي – أخصّائية في علم الاجتماع
في مواجهة هذا الإقصاء والتهديد، التجأ أفراد مجتمع “الميم عين” الى تكوين تجمعات ومنظّمات، من أجل حماية أنفسهم والدفاع عن حقوقهم، اي قاموا ببناء مجتمع بديل للمجتمع الذي رفضهم لكي يثبتوا وجودهم. تعلّق الأخصّائية الاجتماعيّة
وفي حين أن البعض فضّل الفرار من “الجحيم” التونسي إلى فضاءات أرحب، تتمسّك سلمى بالبقاء في تونس، رافضة فكرة اللجوء إلى دولة أخرى.
سلمى – عابرة جنسية (اسم مستعار)
في ظلّ سماء تُخفي قوس قزحها خلف غيوم كثيفة من الجهل والخوف، يحمل أفراد مجتمع “الميم عين” في تونس ذواتهم كحقيقة مؤلمة ممنوعة من البوح. هم غرباء داخل الوطن، لا لأنهم اختاروا الغربة، بل لأن الوطن ضاق بهم حين وسع سواهم.
قد لا يكون قوس قزح مرئيًا اليوم، لكنّهم يرونه هناك خلف كل غيمة تشبه قانونًا جائرًا، وكل صمت رأوا فيه خيانة.
تحقيق
هاجر غماقي